يعتبر مفهوم «الثقافة» من المفاهيم التي لم تكف لحظة، سواء عبر التاريخ أو في تصور المجتمعات الإنسانية، عن إنتاج مرادفاتها وتوليد تمثلاتها في الفكر والذهنيات وفي مراكمة الأسئلة. وإذا كان هذا المفهوم قد حظي باهتمام متزايد من لدن الدارسين والباحثين، الذين حاولوا حصر معناه وتأطير حدود اشتغاله وتأثيره، فإنه، في المقابل، ظل عصيا على التأطير داخل تعريف محدد، نظرا لكونه يعكس في تحوله وتطوره تحول وتطور المجتمع الذي ينتمي إليه، وبالتالي، فإن محاولة ضبط المفهوم لا تعدو أن تكون خطوة منهجية مؤقتة للاستيعاب الظرفي، وتسهيل سبل التناول وطرح الأسئلة.
معنى الثقافة
يمكن اعتبار سؤال الثقافة أو السؤال الثقافي من الأسئلة التي لم تكف لحظة عن توليد النقاش حولها وإثارة الأسئلة المتحولة التي كانت، في كل مرة، تحاول أن تجد توليفا متطورا يجيب عن مختلف التحديات والتحولات التي يعرفها العالم، وذلك بالنظر إلى الأهمية التي تحتلها الثقافة في المجتمعات الإنسانية، ونظرا كذلك لكون ما هو ثقافي يعتبر عنصرا مؤثرا ومكيفا بل وموجها أحيانا لطموحات وانتظارات باقي الحقول الأخرى، سواء كانت سياسية، اقتصادية أو اجتماعية. ولعل هذه الدينامية هي ما ساهم في تعدد التعريفات التي حاولت أن تحصر مفهوم الثقافة في صيغة متفق حولها على صعيد مختلف الأنساق الحضارية والإنسانية.
وفي هذا الصدد، يطلعنا معجم لاروس الصغير في تعريفه لكلمة « ثقافة « على أنها تعني مجموع البنيات الاجتماعية والمظاهر الفنية، الدينية، الثقافية التي تميز مجموعة، أو مجتمعا مقابل آخر. كما أنها تعني أيضا مجموع القناعات المشتركة، سواء في طريقة التفكير أو الفعل التي توجه، بطريقة واعية أو غير واعية، رد فعل شخص أو جماعة.
ويذهب الأكاديمي الفرنسي بيير إيمانويل Pierre Emanuel إلى تعريف الثقافة بكونها كانت دائما تدل على عملية تخصيب الأرض. أما على المستوى المجازي فهي عملية إخصاب الذهن. إلا أن هذا المفهوم الأخير –حسب الباحث دائما– يعتبر استعمالا متأخرا في اللغة، وخاصة الفرنسية، لكون الكلمة تعتبر حديثة.
الإنساني والاجتماعي والأيديولوجي
ومع بداية القرن العشرين، عرفت هذه الكلمة توسعا وانتشارا، حتى صار من الصعب الوقوف عل تعريف واحد يحيط بها. ولتسهيل هذا الأمر، يقترح بيير إيمانويل ثلاثة تعاريف للكلمة:
• المعنى الإنساني: ويقصد به، من جهة، التنمية المتوازنة للقدرات الفردية. ومن جهة أخرى، مجموع المعارف العامة التي يحصلها الفرد، وكذا الإبداعات الشخصية التي يقوم بإنجازها. كما أن ثقافة بلد ما، أو قرن ما وما إلى ذلك..، تتكون من مجموع الإبداعات الذهنية التي ينتجها الإنسان. ويعتبر استمرارها نوعا من التاريخ.
• المعنى الاجتماعي: وتدل على الحضارة بمفهومها العام، حيث تشكل الثقافة، في هذا الفهم، الصيغ التعبيرية التي يقدم بها المجتمع نفسه في مختلف الميادين وعبر تنوع تركيبته البشرية. ومن خلال هذا المعنى، تعتبر الثقافة مرآة نشطة، تسمح للمجتمع، عبر مختلف مكوناته، بالطموح إلى تحقيق معرفة جيدة بنفسه. وعلى هذا الأساس، تصبح الثقافة مسؤولية مدنية ووعيا كليا للمواطنين. من هنا، فإن كل الأنشطة التي تندرج في هذا السياق تصبح ذات بعد سوسيو– ثقافي، على عكس باقي الأنشطة التي تندرج تحت غطاء الإبداع الفردي أو الممارسة الخاصة.
• المعنى الإيديولوجي: وهو التعريف الثالث الذي يدرجه الباحث، حيث تمثل الإيديولوجيا نوعا من الرؤية العلمية الشمولية للإنسان، التي تعتبر الآلة السياسية بنيتها الهدف. كما أن الثقافة، بهذا المعنى هي ترجمة عبر كلمات شخصية فردية، تبعا لقواعد مقننة بصرامة. فهي، إذن، اشتراط نسقي ومنتظم للنفسية الجماعية والفردية.
وإذن، فهذه المفاهيم الثلاثة تؤشر، في تكاملها، على مفهوم «السياسة الثقافية» كمفهوم حديث، يهدف إلى جعل الثقافة أحد عناصر سياسة الدولة، مثلما هو الشأن بالنسبة للتعليم أو الدفاع أو الصحة. وعلى هذا الأساس، تعمل الدولة من خلال هذا المفهوم على بلورة تصورها، الذي ينبغي أن يعكس متطلبات الأفراد داخل المجتمع وارتباط ذلك بالهوية والخصوصية واللغة والتاريخ المشترك، وكلها مفاهيم تتدخل أو تتقاطع مع ما هو ثقافي بالمعنى الذي يستحضره بيير إيمانويل.
مشكل اللغة ووسائل التواصل
أما الباحث جون مولينو Jean Molino، الأستاذ بجامعة بروفانس، إيكس سان بروفانس، فيرى أن كلمة «الثقافة» تتضمن التعليم، الذي يربط بين مشكل اللغة ووسائل التواصل ثم الإبداع الأدبي، والتي يمكن أن ينضاف إليها الثقافة الشعبية وثقافة الأقليات. فالثقافة، في نظره، ليست فقط لغة وإبداع، إنها -إلى جانب ذلك– رؤية للعالم، كما أنها تشكل مجموع المعاني التي تنظم أشكال الحياة لدى فئة اجتماعية معينة. إنها أيضا، مجموع الاستراتيجيات الرمزية التي توجد رهن إشارة الأفراد داخل مجتمع معين، والتي تشكل «الوضعية الرمزية» لأية طائفة.
ولعل أقدم التعريفات، حسب الباحث على سيد الصاوي، وأكثرها ذيوعا حتى الآن، لقيمتها التاريخية، تعريف إدوارد تايلور E. Taylor ، الذي قدمه في أواخر القرن 19 في كتابه عن «الثقافة البدائية»، والذي يذهب فيه إلى أن الثقافة هي: «كل مركب يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والعرف، وغير ذلك من الإمكانيات أو العادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في مجتمع».
الإنسان جوهر الفعل الثقافي
وإذن، إننا أمام تعاريف متعددة لكلمة واحدة تهب نفسها لكثير من التعريفات، لدرجة أصبحت خدعة أن نحصرها في مقاربة جردية، لكن القاسم المشترك الذي يلحم بينها هو أنها تركز على الإنسان كجوهر للفعل الثقافي، كما تركز أيضا على كل ما يرتبط به من علاقات وروابط سياسية، اجتماعية، حضارية وتاريخية، وأيضا سلوكات وطرق تفكير وفعل، تنحى جميعها إلى خلق نوع من التميز ومن الخصوصية، في علاقة الأفراد فيما بينهم وفي علاقة المجموعات والمجتمعات بعضها ببعض.
غير أن هذه الكلمة، التي جعلت منها الدراسات النقدية مفهوما مستقلا بذاته، سرعان ما ستشهد تطورا مضطردا نتيجة التطور الذي حصل في سوق ابتكار الوسائط الجديدة في عالم الإبداع والإنتاج وتسويق المنتوج الثقافي، بالشكل الذي باتت تفرزه آلة العولمة كأنساق جديدة للتعامل على صعيد الاقتصاد العالمي. حيث انتقل الحديث والتداول من مجرد الإحاطة بالخصوصيات التي تنفرد بها جماعة معينة أو مجتمع محدد، إلى الحديث عن الثقافة باعتبارها حقلا سياسيا، وباعتبارها أيضا أساسا لصناعة باتت تخضع، هي الأخرى، لشروط ومتطلبات العرض والطلب.