الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأمريكي من جامعة القاهرة لم ير فيه عدد كبير من كتاب ومثقفي العالم العربي تغييرا أو تبدلا أو تحولا في مسار السياسة الأمريكية في المنطقة العربية والإسلامية وفي العالم، بل رأوا فيه استمرارا لذات السياسة الامبريالية السابقة، ولكن بقفازات من حرير وبوسائل ناعمة لا تستفز مشاعر الشعوب المستهدفة، بعد مرحلة بوشية تميزت بالقسوة والغلظة، والعنف في المواجهة، سواء كان عنفا خطابيا باستخدام مصطلحات إقصائية تلغي أي وجود شرعي للآخر خارج إطار التبعية المطلقة للمشروع الأمريكي، أو كان عنفا ماديا بالدبابات والطائرات والصورايخ التي عاثت فسادا في بلاد المشرق من أفغانستان إلى فلسطين، وأوباما بحسبهم لن يحيد عن هذه الاستراتيجيات الأمريكية الراغبة في بسط الهيمنة والنفوذ على عالمنا العربي وإن بوسائل أقل شراسة والحجة التي يدعم بها هؤلاء موقفهم هذا أن السياسة الأمريكية لا يقررها فرد واحد، بل هي سياسة تصنعها مؤسسات عميقة لا تختلف من رئيس لآخر والخلافات التي تحدث بين الأحزاب الأمريكية جمهورية وديمقراطية، وتحدث بين التوجهات داخل هذه الأحزاب من يمين إلى يسار هي خلافات في المستوى التكتيكي وليس الاستراتيجي.
خطاب الرئيس الأمريكي من القاهرة لا يمثل وجهة نظر أوباما الرئيس بل يمثل توجهات شريحة واسعة من النخب الأمريكية صانعة القرار التي ترى أن المصالح الأمريكية في العالم تقتضي عقد علاقة شراكة مع العالم الإسلامي قائمة على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، وقد تحدثت عن هذه الرؤية الجديدة دراسة بعنوان «تغيير المسار» صدرت قبل الانتخابات الأمريكية، وشارك في إعدادها عدد كبير من الخبراء والباحثين، من أبرزهم مادلين اولبرايت ودينس روس وداليا مجاهد، والأخيران أعضاء في إدارة اوباما ولهم دور رئيس في صياغة العلاقة مع العالم الإسلامي، والذي اطلع على الدراسة يعلم أن خطاب الرئيس الأمريكي مستوحى منها بشكل أساسي، واعتمد في كثير من فقراته عليها، وهذا يضعف حجة من يقول إنه مجرد حديث عاطفي من رئيس شاب ولا يمثل تحولا عميقا في بنية السياسة الأمريكية تجاه العالم الإسلامي.
السياسة الأمريكية سوف تظل سياسة تخدم المصالح الأمريكية فهي لن تعرض مصالح أمريكا للخطر من أجل مصالح الآخرين ولكن الخلاف دائما هو بين وسائل تحقيق هذه المصالح وطرق الدفاع عنها.
في الماضي لم تكن الولايات المتحدة مهتمة بما يكسبه الآخرون بقدر اهتمامها بما تكسبه هي، ولم تكن مهتمة بمصالح الآخرين بقدر اهتمامها بمصالحها، أما اليوم فإن من أبرز ما يشير إلى وجود تحول في السياسة الأمريكية، الحديث عن تأسيس العلاقة مع الآخرين على قاعدة المصالح المشتركة، أي الإقرار بأن للآخر مصالح ينبغي عدم تهديدها من أجل تحقيق علاقة مستقرة وآمنة بعيدة المدى. وكذلك إعلان الرئيس الأمريكي أن الولايات المتحدة لن تعارض وصول أي فئة للحكم بسبب الخلاف الأيديولوجي، إذا ما التزموا بأصول اللعبة السياسية المتفق عليها دستوريا، إذ تبقى قاعدة المصالح المشتركة والحوار مع الخصوم وسيلة ناجعة لمواجهة مثل هذا الاحتمال.
اعتراف رئيس الولايات المتحدة بأخطاء الاستعمار الغربي والحرب الباردة ودورها السلبي على المجتمعات الإسلامية ليس حديثا عاطفيا أو حديثا انتخابيا بل هو أقرب إلى الاعتذار التاريخي وهو مؤشر آخر على أن هناك توجهات ومقاربات جديدة لمسار العلاقة بين العالمين الإسلامي والغربي.
خطاب أوباما وتوجهاته التصالحية هذه هي أفكار النخبة التي تحكم أمريكا اليوم، وهناك نخب أمريكية ضد هذه الأفكار، أي أننا في الواقع لسنا أمام نخبة واحدة تحتكر صناعة القرار كما يفترض البعض بل أمام نخب عديدة بعضها يرغب في مواصلة الحرب على الإرهاب بأسلوب جورج بوش وهو ما يعني أن فشل هذه الإدارة الأمريكية في سياساتها التصالحية هذه وعدم خدمتها للمصالح الأمريكية قد يأتي بالانتخابات القادمة بفريق أكثر تشددا وتصلبا تجاه العالم الإسلامي، وبما أن هذه التوجهات الجديدة هي حصيلة جهد نخبة أمريكية قامت بمراجعة السياسات المتبعة منذ عقود مع العالم الإسلامي وتوصلت إلى فشل هذه السياسات وإلى ضرورة تبديلها وتغييرها فهل نرى في العالم العربي من يقوم بمراجعة شاملة للسياسات المتبعة داخليا وخارجيا للعقود المنصرمة ويحدد أين كان الخلل فيها وكيفية الخروج من مآزق السياسة العربية المتراكمة يوما بعد يوم وعاما بعد آخر. أم أننا سنجد من يقول لنا إنه لا توجد مآزق حادة وما يوجد هو مآزق منفرجة.
[email protected]