عاجل
DAMMAM
الخميس
34°C
weather-icon
الجمعة
icon-weather
34°C
السبت
icon-weather
37°C
الأحد
icon-weather
33°C
الاثنين
icon-weather
34°C
الثلاثاء
icon-weather
36°C

حسن السبع

حسن السبع

حسن السبع
حسن السبع
أخبار متعلقة
 
كانت الومضة التي كتبت على ضوئها الجزء الأول من هذا المقال عبارةً للروائي التشيكي ميلان كونديرا عن «العمى الغنائي في زمن الرعب» حيث هجر ميلان كونديرا الشعر والرسم ولاذ بالرواية.. ففي أزمنة العمى الغنائي ما يحدّ من خيال الشعراء والمصورين كي لا يشطحوا بما لا يخدم الأيديولوجيا، أو بما يعكر صفو مزاج الرقيب، أو يناقض توجهاته، أو يتجاوز قدراته الثقافية. أشرت كذلك إلى أنه في زمن العمى الغنائي عادة ما تكون نبرة الكلمات عالية ذات رنين، تستبدل به عمقَ المعنى بالطنطنة.. لا يهم مدى قرب تلك المفردات أو بعدها عن الحقيقة .. المهم أن تكون صاخبة مدوية ومدججة باليقين. لكنه اليقين الذي لا يترك للحلم متنفسا.. وأشرت، وهذا هو بيت القصيد، إلى نوعين من الكتابة (في مجال الشعر والمقال) أحدهما دافعه العصا، وآخر دافعه الجزرة. وكلاهما ينتهي إلى أرشيف التاريخ ليذكرنا إما بضعفنا أو بأخطائنا. العمى يعني انعدام الرؤية.. أي فقدان البصيرة وليس البصر.. فهنالك من يرون ويسمعون بالعيون والآذان، ومن يرون ويسمعون بالأرواح والضمائر. ويبدو أن كل شيء يؤسس على غير بصيرة مصيره إلى الزوال. لذلك وجد (مالرو) في وضوح الرؤية مبررا لاستمرار الحياة.. في قوله: أن ترى أو تموت! من يتصفح خريطة العالم ويحدد مناطقها المتأزمة المشتعلة، أو يتابع نشرات الأخبار اليومية التي عادة ما تبدأ بالفعل المبني للمجهول (قُتِلَ) يدرك مدى صحة تلك العبارة البسيطة «أن ترى أو تموت».. فالموت يحوم في المناطق التي تنعدم فيها الرؤية، حيث يقود ذلك العمى البشرَ إلى مصير مجهول. ومن يتصفح كتب التاريخ يتعلم، كذلك، كيف انهارت أنظمة، وتبخرت كيانات، وتلاشت معها أدبياتها وقصائدها وأغانيها ورسوماتها.. حفظت جميعها في أرشيف التاريخ البشري الساكن المترب .. كان المنجز الأدبي والفني لتلك الحقبة يستمد قيمته من تزكية الرقيب.. لم يكن غناء من أجل المستقبل. أما الذين غنوا من أجل المستقبل فقد أرسلوا، كما يقول كونديرا، إلى فوج تأديبي! زالت الغشاوة فاتضحت الرؤية، وبخلاف المؤلفات التي قبرت في الأرشيف، عادت اليوم إلى الواجهة أعمال الكتاب الذين رفضوا الانضمام إلى حلبة الرقص أو جوقة العمى الغنائي، وأعيد إليها اعتبارها فصارت تحتل الآن، رفوف المكتبات بعد أن كانت ذات يوم من المحرمات .. طرحت تلك الكيانات وزر الماضي، وتبرأت من أخطائه القاتلة، وبدأت في التصالح مع تاريخها وثقافتها. حتى القيصر نيكولاي الثاني (ويا للمفارقة!) أعيد له اعتباره، بعد أن أصدر القضاء الروسي حكما تاريخيا معتبرا مقتله وأفراد عائلته جريمة من جرائم نظام تعسفي. لجأ كونديرا للرواية وكأنه ينفذ مقولة وردت في روايته (الحياة هي في مكان آخر): «إن كنا لا نقوى على تغيير العالم، فلنغير حياتنا على الأقل، لنعشها حرة». ومعنى أن تكون حياة المرء حرة هو أن لا ينساق خوفا من العصا، ولا طمعا في الجزرة. أن يكون حرا، يعني أن يعبر إبداعيا وإنسانيا عن ذاته بلغة مختلفة. نتندر قائلين: «المترجمون خونة» لكنهم لا يعدمون بسبب هذه التهمة.. ومرة، كنت أشاهد لقاء مع شاعر عراقي عاش البؤس من ألفه إلى يائه. لا أتذكر اسم ذلك الشاعر الجميل، لكني عرفت من تلك المقابلة أنه قد هرب اضطرارا في زمن الرعب من الشعر والكتابة والرسم إلى الترجمة.. قد يصعب، ولكن لا يستحيل، أن تدين مترجما. هكذا تتحول الترجمة في زمن الرعب إلى شكل من أشكال الهرب والحماية من البطش. كل فكرة تتناقض مع أيديولوجية رقيب زمن الرعب تبقى في رقبة المؤلف وليس المترجم. أو هكذا كان يعتقد ذلك الشاعر اللاجئ للترجمة هربا من الشعر. لجأ كونديرا إلى الرواية، وخبأ الشاعر العراقي قصائده ومقالاته ورسوماته للمستقبل، وانشغل بالترجمة ليحصن نفسه بها من «العمى الغنائي في زمن الرعب». لم يقصد ميلان كونديرا هجاء الشعر، بل كان يشفق على أولئك الذين أجبروا على الغناء في أزمنة الرعب. وأما الهجاء فينبغي أن يكون من نصيب أولئك الذين يسيل لعابهم لمرأى الجزرة .. الذين تغريهم الحوافز بكافة أشكالها إلى درجة العمى. [email protected]