في مقالة الأسبوع الماضي علقتُ على أوضاعنا المتراجعة، وسط زحمة القمم، واتساع حجم الهوة والانشقاق داخل الصف العربي الذي زادته حرب إسرائيل على غزة انقساماً وتشتتاً، حيث أُضيفت إلى ضحايا العرب ضحية أخرى هي المزيد من الانهيار في النظام الإقليمي العربي وسط تخندق واصطفافات وسياسات المحاور بين ما سمته إدارة بوش الراحلة محور الاعتدال وما سمته محور التشدد. وبهذه الطريقة تعمق الشرخ العربي ومعه الفلسطيني حيث دارت معركة ضد الفلسطينيين وهم لأول مرة منقسمون على أنفسهم. وقد أنهيتُ تلك المقالة بالتأكيد على أنه لم يعد مقبولًا تحت أية ظروف، أن نجلس كعرب ونشاهد دك وقصف غزة وارتفاع نسبة ضحايانا بمعدلات صارخة تتجاوز 100 فلسطيني لكل إسرائيلي في حرب مدمرة امتدت على مدى ثلاثة أسابيع، ونحن لا نملك سوى إرسال المعونات والضغط لفتح معبر أو الدعاء والتمني. مع أن «البلطجة» الإسرائيلية ضد الفلسطينيين كانت رسالة لبقية العرب بأن إسرائيل هي القوة المهيمنة، وأن ما يجري في غزة الآن قد يتكرر ضد عواصم ودول عربية أخرى وبشكل فردي.
كما اكتمل التغيير في واشنطن برحيل إدارة بوش بإرثها وحصادها الثقيل والمنهك ومجيء إدارة أوباما التي اتخذت من التغيير الذي «يمكن الثقة فيه» شعاراً لها ونهجاً تمثل في إنهاء الكثير من سياسات بوش حول جوانتانامو والتعذيب، وقد فعلت الإدارة الجديدة ذلك منذ يومها الأول.
ومن رحم مأساة ومحرقة غزة وبعد 7000 ضحية فلسطينية بين شهيد وجريح ومعاق خرجت صحوة عربية في قمة الكويت، واجتمع العرب وكسروا ذلك التوصيف بين «الاعتدال» و«الممانعة» واتحدت المواقف وذابت الفروقات. ولم يعد العرب يفرقون بين من هو ممانع ومن هو غير ذلك. وقد وصف أمير دولة الكويت ما قامت به إسرائيل بأنه جريمة من جرائم الحرب ومن الجرائم ضد الإنسانية، وطالب بتوحيد الكلمة والصف العربيين وإزالة الخلافات والفرقة بين الفصائل الفلسطينية.
أما أبرز معالم التغيير العربي فقد كانت المصالحات العربية - العربية بين كل من السعودية وسوريا ومصر وقطر على هامش القمة العربية . ولاشك في أن كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز لامست الجراح وأذابت الفوارق بين المحورين وألغت التصنيفات بتغيير كلي في المعادلة التي صبغت المشهد العربي المفكك الذي أغرى خصومنا بالتجرؤ والاعتداء علينا وتقديم مشاريعهم وتعزيز مواقعهم ومصالحهم على حساب مصالحنا التي عجزنا عن حمايتها والدفاع عنها. والحال أن كلمة خادم الحرمين الشريفين أرست بداية نظام عربي جديد. وقد وصف النظام الإسرائيلي وجرائمه بـ «العصابة الإجرامية» وحذر من «أن على إسرائيل أن تدرك أن الخيار بين الحرب والسلام لن يكون مفتوحاً في كل وقت»، وأن «مبادرة السلام العربية المطروحة على الطاولة اليوم لن تبقى على الطاولة إلى الأبد» . كما كان معبراً كلامه بتأكيده على أن «فرقتنا وانقسامنا وشتات أمرنا مازالت عوناً للعدو الإسرائيلي، ولكل من يريد شق الصف العربي لتحقيق أهدافه الإقليمية على حساب وحدتنا وعزتنا وآمالنا». ودون شك فإن هذه المواقف تقربنا كعرب في تقاطع لمحوري المعتدلين والممانعين، حيث لم نعد قادرين على التمييز بينهما.
صحيح أن التغيير والتوحد العربي يؤسس لما بعده رغم ظهور خلافات في صياغة البيان الختامي حول «حماس» وتوزيع أموال المساعدات، لكن ينبغي ألا يأخذ هذا من المصالحة والتقارب الذي تحقق، والشعور بالمسؤولية واقتناع القادة بأن العرب هم الطرف الأكثر عدداً والأكثر إمساكاً بأوراق القوة الناعمة من نفط وموارد طبيعية وصناديق سيادة واستثمار، لذا فلا يمكن أن نبقى مهمشين ومتفرجين على اللاعبين الدوليين والإقليميين. ويمكننا الإشارة هنا إلى الإيرانيين الذين يتقاربون مع العراقيين بعد تصريحات مستشار الأمن القومي العراقي موفق الربيعي ومستشار الأمن القومي الإيراني سعيد جليلي عن عزم البلدين على إنشاء نواة منظومة أمنية وتعاون أمني إقليمي مشترك بين البلدين القويين، والتضحية بمنظمة «مجاهدي خلق» ليشمل في مرحلة أخرى ترتيبات للأمن في منطقة الخليج ككل، بما يشمل دولنا في مجلس التعاون الخليجي. ويمكننا الإشارة أيضاً إلى تركيا التي برزت بإرثها العثماني ساخطة على حرب إسرائيل في غزة، وناشطة في مجال أمننا العربي، ومتوسطة بين سوريا وإسرائيل، فضلاً عن كونها لاعباً أكثر تأثيراً من العرب في الشأن العراقي أيضاً. كما يجب أن نشير طبعاً إلى إسرائيل التي تتحكم بالكثير من الأوراق والتوازنات الخطيرة. وكل هذه المتغيرات المتسارعة وما يجري من إعادة ترتيبات، واختفاء سياسة المحاور العربية - العربية بصمود المصالحات سيشكل جبهة وموقفاً عربياً واحداً تجاه جيراننا غير العرب، الممسكين بزمام الأمور والمتحكمين في المسارات الإقليمية جميعها.
أما على المستوى الدولي، فعلينا كعرب التوحد في الشكل والمضمون والخطاب للاستفادة من التغيير على قلته وشكليته الذي تمثله إدارة أوباما البراغماتية حيث جعلت من قضايا الشرق الأوسط أولوية على رأس أجندتها، لذا نراها الآن تسعى إلى إيجاد شريك بلغة وموقف واضحين. صحيح أننا لا نتوقع من إدارة أوباما أن تكون مختلفة في انحيازها لإسرائيل. وإن ظهرت مؤشرات دالة في أول تعليق لأوباما، وفي تعيينه جورج ميتشل كأول مبعوث غير يهودي للشرق الأوسط، وهو مبعوث يحظى باحترام الطرفين . كما كان لافتاً تأكيد أوباما على أن «معابر غزة يجب أن يعاد فتحها ليتاح نقل المساعدة الدولية والمبادلات التجارية، مع وجود المراقبين المناسبين وبمشاركة السلطة الفلسطينية والأسرة الدولية» وقوله : إن «سياسة إدارتي هي السعي بنشاط وقوة من أجل سلام دائم بين إسرائيل والفلسطينيين وأيضاً بين إسرائيل وجيرانها العرب». تماماً كما كان لافتاً مطالبته لـ «حماس» بالاعتراف بإسرائيل ووقف إطلاق الصواريخ، وإن انتقد وحشية الاستخدام المفرط للقوة من قبل إسرائيل واستخدامها أسلحة محرمة أدانتها المنظمات الدولية، لكن ما لدينا كعرب من مؤشرات حتى الآن هو أفضل الممكن من إدارة أميركية وسط الثوابت والمعطيات الأميركية التي لن تتغير على رغم الحديث الممل عن التغيير الآتي في واشنطن. فنحن كعرب إلى اليوم لم نستوعب كيفية التعاطي مع واشنطن، ولم نعرف من أين تؤكل الكتف مع الشأن الأميركي، كما تعلم اليهود ذلك منذ أكثر من مائة عام.
وغني عن التأكيد القول : إن التغيير العربي يجب أن يكون حقيقياً وواقعياً، وإن الصحوة العربية التي أفرزتها قمة الكويت يجب ألا تتلاشى بالعودة إلى الخلافات والانقسامات، ثم إن علينا كعرب الاستفادة من إدارة أوباما كفرصة، وألا نفوتها بالصراع والخلاف، لذا ينبغي أن نعي أن التغيير الأميركي حقيقي، وتمثله جرأة أوباما في تقديم مصالح بلاده الاستراتيجية في المنطقة على المصالح الضيقة مع إسرائيل، التي طالما أساءت لمصالح واشنطن وشعبيتها وقيمها، وهذه هي التحديات الراهنة لنا كعرب ولإدارة أباما أيضاً.
الاتحاد الإماراتية