على طريقة «قل ولا تقل» قد يؤخذ على الكاتب الكتابة عن نفسه، وعن تجاربه وعالمه الخاص، باعتباره دورانا حول الذات. وهي ملاحظة قد لا تجد لها سندا قويا في كل الأحوال، إذا وضعنا في الاعتبار أن ما يغذي شعلة الكتابة هو ذلك التوتر أو التأزم أو الانفعال أو التفاعل، وهي أمور ذاتية محضة. والكاتب الذي يلغي ذاته سوف يتحول، في النهاية، إلى كاتب عرائض، أو خطيب مناسبات، أو صوت ذائب في أصوات الجوقة.
وفي حين يتبرأ أو يعتذر بعضهم عن التلفظ بكلمة (أنا) يتبرأ أنيس منصور في زاوية له بجريدة (الشرق الأوسط) من يوم لا يقول فيه: أنا.. «أنا قرأت.. وأنا فكرت.. وأنا تأملت.. أنا رأيت.. أنا انفعلت.. أنا غضبت.. أنا سعدت.. فالأدب والفن هو ترجمة ذاتية يومية، أو (هو) العمر كله»! وما يقال عن الأدب والفن يمكن أن يقال كذلك عن بعض أشكال الكتابة الأخرى.
ما يقوله أنيس منصور شيء يختلف عما يفكر فيه هواة العناوين واللافتات الكبيرة، ومنهم من يعتقد أنه يصنع وعيا، وأنه يساوي وزنه ذهبا. وبالنسبة لي كقارئ: فـ (أنا) شخصيا أجد أن من المتعذر فصل الكتابة عن ذات الكاتب. وسوف يغريني بالقراءة الكاتب الذي يتحدث عن عالمه الخاص إذا كان فيه ما يفيد أو يمتع. فإما أن أتعلم منه شيئا، أو أن يمتعني برشاقة أسلوبه وخفة ظله. ولم أصفَّ يوما مع من ينتقد هذا الشكل من أشكال الكتابة، فلست أجد مبررا وجيها لذلك الاعتراض إذا كان في حياة الكاتب ما يستحق التدوين والقراءة. لا أجد تفسيرا لذلك الانتقاد إلا هواية الاعتراض على كل شيء. أليس لكل كاتب طريقته في اختيار المضمون والشكل واللغة التي تتناغم مع اهتماماته. وهل يمكنه أن يبدع كتابة بمنأى عن الذات وعالمها الخاص، فلا تكون متكلفة، أو متخصصة في تصنيع الكذب وتشويه الحقائق، أو هي، في أحسن الأحوال، صدى لأصوات الآخرين. «ولا أغبى من صدى» كما يقال.
لا أبتعد كثيرا عن موضوع هذا المقال إذا أشرت إلى من يفهم (الالتزام) بالمقلوب.. فلا يفرق بينه وبين الالزام. سوف يحدثك بطريقة مسرحية عن «الكتابة/ الالتزام / الرسالة / المسؤولية» ولن تكون في نظره مسؤولا أو (بوسطجيا)، كي لا أقول (رساليا).. إلا إذا نأيتَ عن ذاتك حتى تفقد ملامحك، ولن تكون كذلك إلا إذا ذوَّبتَ صوتك في أصوات جوقته. فهل يعلم صاحب هذه الملاحظة أنه لا توجد خربشة على وجه الورق إلا وتتضمن رسالة ما.
ما المشكلة حين يخاطبنا كاتب ما بلغة غنية بالدلالات تتجاوز، في نهاية المطاف، ذات الكاتب إلى حقائق الوجود المشتركة. وما المشكلة إذا كان في سرد تفاصيل ذلك الشأن الخاص ما يثري حياة القارئ، أو يترك أثرا ما في نفسه؟ أو يهبه وقتا ممتعا إن لم يكن مفيدا، أو مفيدا وممتعا في الوقت نفسه.
حدّش عنده فكرة بايخة؟!
عندما أتحدث عن ثنائية المتعة والفائدة تطفو على سطح الذاكرة مباشرة ثنائية الوعاء والمحتوى. وهي ثنائية تذكرني بعبارة اسحاق أزيموف القائلة: «فكرة سيئة مكتوبة جيدا ستكون على الأرجح مقبولة أكثر من فكرة جيدة مكتوبة بشكل سيئ »! فإذا كان الوعاء سيئا والمحتوى لا يقل عنه سوءا، فتلك بلية على أخرى. أو «ضِغثٌ على إبَّالة». سأشير، كذلك، إلى حكاية ظريفة لصحافي مصري كبير كان يبحث عن فكرة لعموده الصحافي اليومي. وتعرفون جميعا مآزق الكتابة اليومية، المقال سيكتب لا محالة.. لكن أين هي الفكرة؟ أشار إسحاق أزيموف إلى فكرة (سيئة) لكن كاتبنا أطل على زملائه المتواجدين في (بوفيه) الجريدة بحثا عن الفكرة الملقاة على قارعة الطريق.. قائلا: «يا اخوانا.. حدّش عنده فكرة بايخه»؟
هذا السؤال الظريف من رئيس تحرير وكاتب عمود يومي يؤكد مقولة أزيموف المتعلقة بأهمية الصياغة أو الوعاء الذي يحفظ المحتوى. فكاتبنا وهو يبحث عن فكرة (بايخه) أو إذا ضحينا بالنكتة، وقلنا فكرة بسيطة، إنما يشبه شاعرا يصطاد الكلمات، ينفض عنها الغبار، يغسلها، يلمعها ، يصقلها، ويحملها بالدلالات، ثم يقـدمها للقارئ في أزهى صورة! .
[email protected]