في تاريخ الأمم لحظات تفصل بين العصور. وفي محرم 1357هـ (مارس 1938م) شهدت المملكة لحظة حاسمة، أنهت حقبة من الزمن وفتحت الباب لحقبة أخرى. فقد انساب نهر الخير، حاملاً معه النفط، من بئر اختبار جرى حفرها حتى عمق 1441 متراً في قبة الدمام بالمنطقة الشرقية.
كان استغلال الثروات الطبيعية للمملكة ومنها البترول والثروات المعدنية حلماً يراود جلالة الملك عبدالعزيز أثناء توحيده للمملكة. ولا أدل على ذلك من سعيه إلى توقيع اتفاقيات لاستغلال تلك الثروات لما فيه مصلحة البلاد. وقد عزز اكتشاف البترول في البحرين آمال الملك عبدالعزيز في العثور على هذا المورد الاقتصادي الحيوي في بلاده. وتوجت مساعي جلالته في هذا الاتجاه بتوقيع اتفاقية الامتياز الأساس مع شركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا «سوكال» في 4 صفر 1352هـ الموافق 29 مايو 1933م. وتوافد الجيولوجيون إلى المنطقة الصحراوية المحيطة بالدمام، وراحوا يدقون على الصخور ويجسون نبض الأرض لعلها تبوح بالسر الدفين الذي تخبئه في طياتها.
وقد استغرق الأمر زهاء خمس سنوات للإجابة عن تساؤلات الجيولوجيين، فقد عثر على الصخر – الذي يحمل في خباياه الذهب الأسود – في الطبقة التي منحها الجيولوجيون اسم «المنطقة الجيولوجية العربية». وكانت البئر رقم (7) – التي حفرت في التكوين الجيولوجي المعروف باسم «قبة الدمام» –هي بشارة الخير العميم، التي توّجت بالنجاح أعمال البحث والتنقيب. فقد ترتب على هذا الحدث الكبير أن أصبحت المملكة بعد سنوات في طليعة الدول المنتجة للنفط. وكان من الطبيعي أن ينعكس ذلك على كل شيء في المملكة، فتزدهر، وتتوافر فيها عوامل البناء اللازمة لتشييد المستقبل، وترتقي فيكون لها صوت مسموع في المحافل الدولية، وفوق هذا وذاك؛ ينتقل شعبها نقلة حضارية عظيمة تجعله يطوّع كل تقنيات العصر لخدمته وازدهاره. وكان من نتائج هذا الحديث أيضاً؛ إنشاء الشركة التي يعرفها العالم اليوم باسم شركة الزيت العربية السعودية أو «أرامكو السعودية».
بئر الخير.. بئر الدمام رقم 7
وعلى الرغم من أن اسم «بئر الدمام رقم 7» لا يحمل أي تعبير شاعري، فإنه ظل رمزاً للنجاح والفأل الحسن، فكان أن أطلق عليها خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله بن عبدالعزيز، يحفظه الله، اسم «بئر الخير». وقد حفرت آلاف الآبار بعد هذه البئر، لكن لم تحظ واحدة منها بالمكانة التي حظيت بها بئر الدمام رقم 7. وفي هذا العام، نحتفل بمرور 75 عاماً على حفر هذه البئر واكتشاف النفط في المملكة. كما تحتفل الشركة بمرور سبعة عقود ونصف العقد من الزمن على استمرار إنتاج البترول.
وتقع بئر الدمام رقم (7) على التل المعروف باسم «جبل الظهران». ويمثل هذا التل السطح الظاهر من قبة الدمام، التي توجد على مقربة من مجموعة من القمم المعروفة باسم (أم الروس). ولا يبعد مركز التنقيب والأبحاث المتقدمة التابع لأرامكو السعودية كثيراً عن هذا الموقع. فهذا المركز – الذي يعد قلعة من قلاع تقنيات النفط الحديثة – يوجد في منطقة تعلو الطريق المؤدية إلى البئر. كما يقع خلفه المركز الرئيس لإدارة الشركة والأحياء السكنية التابعة لها في الظهران. والذي يرى مدينة الظهران اليوم، ويقارن حالها بالأيام الأولى حين كانت مجرد مخيم للعاملين في حفر آبار النفط، سوف يدرك مدى التغير الكبير الذي طرأ عليها. فقد اكتست رمال الصحراء باللون الأخضر البهيج، وزودت المباني السكنية بوسائل الراحة. ودخلت تقنية رقائق السليكون والصلب الذي لا يصدأ أماكن العمل، وأصبحت ظهران الألفية الثالثة متقدمة بشكل عظيم عن ظهران الثلاثينيات. وبرغم ذلك فإن أرامكو السعودية لم تغفل عن جذورها الجيولوجية الراسخة.
اتفاقية امتياز البحث عن البترول
وتمتد هذه الجذور إلى شهر صفر عام 1352هـ الموافق شهر مايو عام 1933م، حينما وقعت اتفاقية امتياز البحث عن البترول، كما أسلفنا القول. وقد بدأت أعمال البحث والتنقيب تأخذ مسارها في الخريف التالي، وبالتحديد في 23 سبتمبر 1933م، حينما وصل الجيولوجيون الأوائل إلى المملكة. وقد حطوا رحالهم – أول الأمر – عند قرية الجبيل الساحلية الهادئة، التي تبعد نحو 105 كيلومترات شمال قبة الدمام. وما أن التقطوا أنفاسهم، حتى امتطوا الإبل والسيارة في يوم وصولهم نفسه لكي يلقوا نظرة على «جبل البري» الذي يقع على بعد 11 كيلومتراً جنوب الجبيل.
وفي طريق العودة، اعتقدوا أنهم شاهدوا سراباً، ولكن تبين – فيما بعد – أنهم كانوا ينظرون إلى المستقبل. كانت الأرض الفسيحة تمتد أمامهم، ولكن فجأة تغير كل شيء. وحل محل السراب اللامع ضوء آخر ساطع، وابتسمت صحراء الجزيرة العربية ابتسامة عريضة، جعلتهم يتفاءلون بالمستقبل، الذي حفل بالنمو والتطور الكبير وعلى نطاق واسع وفي زمن قياسي لا يصدق!
بشائر الخير العميم وتدفق النفط
كانت بداية هذا التطور وتلك الإنجازات هي اكتشاف النفط في بئر الدمام رقم (7). وحينما اختبرت هذه البئر في الرابع من مارس 1938م أنتجت 1585 برميلاً في اليوم، ثم ارتفع هذا الرقم إلى 3690 برميلاً في السابع من مارس، وسجل إنتاج البئر 2130 برميلاً بعد ذلك بتسعة أيام، ثم 3732 برميلاً بعد خمسة أيام أخرى، ثم 3810 براميل في اليوم التالي مباشرة. وواصلت البئر عطاءها على هذا المنوال مما أكد نجاحها كبئر منتجة. وفي ذلك الوقت، كان قد تم تعميق بئري الدمام رقم (2) ورقم (4) حتى مستوى المنطقة الجيولوجية العربية. ولم تخيب هاتان البئران آمال الباحثين عن النفط، فقد أعطتا نتائج طيبة. وعمّ الفرح والسرور أرجاء مخيم العمل الذي أقيم في الدمام.
الزيارة الميمونة للاحتفال بعصر الخير والنماء
ومن الجدير بالذكر أن جلالة الملك عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله، لم يبخل أبداً بتقديم كل مساعدة ممكنة للشركة، فقد مد لها يد العون، على أمل أن تسفر الجهود المبذولة في العثور على النفط. ولهذا، ما أن أعلن رسمياً عن اكتشاف النفط بكميات تجارية (وكان ذلك عقب شهر أكتوبر 1938م) حتى بدأت الاستعدادات لزيارة جلالته للمنطقة الشرقية التي كانت تعرف آنذاك باسم منطقة الأحساء.
وقد تزامن توقيت زيارة جلالة الملك عبدالعزيز مع اكتمال خط الأنابيب الذي امتد من حقل الدمام إلى ميناء رأس تنورة، بطول 69 كيلومتراً، حيث رست ناقلة النفط التي أدار الملك عبدالعزيز الصمام بيده لتعبئتها بأول شحنة من النفط السعودي. وهكذا، كانت هذه أول شحنة من الزيت الخام صدّرتها المملكة على متن ناقلة في 11 ربيع الأول 1358هـ الموافق للأول من مايو عام 1939م.
لقد ابتهج الشعب السعودي وقتذاك باكتشاف البترول وإنتاجه. وفي الواقع، فإن الشيء الذي لم يعرفه أولئك الذين احتفلوا بهذا الاكتشاف في المملكة هو أن حقل الدمام ليس إلا واحداً من عشرات من حقول النفط والغاز الطبيعي، بما في ذلك حقل الغوار، أكبر حقول النفط في العالم، وحقل السفانية الذي يعد أكبر حقل نفطي في المناطق المغمورة على مستوى العالم أيضاً.
وحينما قام الرواد الأوائل من الجيولوجيين التابعين للشركة بمسح منطقة الامتياز التي بلغت مساحتها مليون كيلو متر مربع، بحثاً عن الأماكن التي يرجح وجود النفط فيه، لم يتخيلوا أن زهاء ربع الزيت الموجود في العالم مخزون في باطن أراضي المملكة. ولم يدر بخلد أحد منهم أن احتياطي الزيت القابل للاستخراج في المملكة سوف يتجاوز في يوم من الأيام 260 بليون برميل. ولم يتصور أحدهم أيضاً أن احتياطي الغاز الطبيعي القابل للاستخراج سوف يزيد على 248.5 ترليونات من الأقدام المكعبة القياسية. وفي ذلك الوقت، لم يكن أحد يقدر الغاز الطبيعي حق قدره، أما الزيت فكانت النظرة إليه مختلفة، إذ كان محط اهتمام المنتجين والمستهلكين على حد سواء.
وإضافة لما سبق، لم يكن الحفارون الأوائل يتخيلون أن بئر الدمام رقم (7)، حتى بعد أن نجحت في إنتاج النفط بكميات تجارية، سوف تظل قادرة على مواصلة الإنتاج لعدة عقود من الزمن، وأن هذه البئر سوف تنتج وحدها أكثر من 32 مليون برميل من الزيت. ولم يتخيل قدامى المهندسين والمخططين في الشركة أن إجمالي الإنتاج اليومي من الزيت الخام سوف يصل إلى عشرة ملايين برميل، كما حدث عام 1982م.
وعلى هذا فإن خيال أولئك الرواد الذين بدأوا العمل في الشركة في الثلاثينيات لم يكن بعيداً عن الواقع كثيراً. فمن كان يتوقع في ذلك الزمان البعيد أن يصل إجمالي عدد الموظفين بالشركة إلى قرابة 52000 موظف، أكثر من 88 بالمائة منهم سعوديون، وأن تحفر الشركة الآلاف من آبار الزيت والغاز في البر والبحر، وأن تمد آلاف الكيلومترات من شبكة خطوط أنابيب نقل النفط والغاز، وأن تنشئ الشركة العشرات من معامل فرز الغاز من الزيت، وعدداً آخر من معامل الغاز وسوائل الغاز الطبيعي. بالإضافة إلى 10 فرض لشحن وتوزيع وتصدير النفط.
وتعنى أرامكو السعودية بالاستثمار في مجالي التكرير والتسويق داخل المملكة وخارجها. وهي تدير شبكة محلية لتوزيع المنتوجات البترولية تلبي الحاجات اليومية لملايين المستهلكين في مختلف أنحاء المملكة. كما تدير الشركة خمسة معامل للتكرير في المملكة، يصل إجمالي طاقتها الإنتاجية إلى أكثر من مليون وسبعمائة وخمسين ألف برميل من الزيت الخام يومياً. كما أنها تشارك في عدد من المشروعات لتكرير البترول في المملكة وحول العالم. وتصل طاقة التكرير الإجمالية لهذه المشروعات المشتركة إلى قرابة المليوني برميل يومياً. وهي تمتلك أسطولاً من ناقلات النفط العملاقة، يتكون من 25 ناقلة، من بينها خمس ناقلات للمنتوجات. ويقوم هذا الأسطول بنقل كميات كبيرة ومتزايدة من الصادرات النفطية للشركة.
وعلى الرغم من أن هذه الإنجازات الكبيرة لم تخطر على قلب أحد في المراحل الأولى للبحث عن النفط بالمملكة، إلا أن عام 1938م كان يحمل معه بعض الآمال والبشائر التي تدل على أن حقبة جديدة قد بدأت في تاريخ المملكة.