بمناسبة قدوم شهر رمضان المبارك نواصل تقديم هذه اللمحات من الذكريات تحت عنوان (وسم على أديم الزمن) لمعالي الأستاذ الدكتور عبد العزيز بن عبد الله الخويطر، ولعلها تكون بمثابة استراحة للقارئ فيها متعة وفائدة.. والذكريات وإن دونت سيرة حياة صادقة وصريحة لشخص بقدر الدكتور الخويطر، إلا أنها تستعيد الكثير من الصور عن أماكن وأزمنة ماضية، كما تتضمن العديد من المعلومات المهمة التي وثق بعضها بالأرقام والإحصائيات التي يمكن أن تضيء للشباب بعض ما يجهله عن الماضي من عادات وتقاليد ونظام حياة وعمل وجوانب اجتماعية وتاريخية عديدة.
خطوات تلت التخرج:
تخرجت من المعهد في منتصف عام 1364هـ، وكنت الأول على دفعة ذلك العام. وكان النظام يحق الابتعاث للطلاب الثلاثة الأول من المعهد، فكتب المعهد لي شهادة التخرج، وأخذتها وذهبت الى مكتب المدير العام للمعارف (قبل انشاء الوزارة) لأوقع من مديرها السيد الحبيب طاهر الدباغ، وكان مكتبه في مبنى (الحميدية) حيث اكثر الدوائر الحكومية، وكان لا يوقع شهادة التخرج من المعهد والبعثات الا هو. فلما دخلت مكتبه، نظر في الشهادة، وقال لي:
متى سوف تسافر ان شاء الله؟
فقلت: إني كتبت للوالد في الرياض استأذنه في السفر، واني في انتظار رده.
فقال لي: لابد من سفرك، واذا كان عبدالله والدك الذي أنجبك فأنا والدك الذي علمك، ثم أردف ـ رحمه الله، واسكنه فسيح جناته ـ ولعله استقرأ من حديثي اني غير متأكد من موافقة والدي رحمه الله لأمر لم أبح به.
قال:
(لا تحمل هما، فسوف تسافر مع البعثة ـ ان شاء الله تعالى ـ وأنا كفيل أن والدك سوف يوافق، ولن يخالف رأيي. وكرر إذا كان والدك هو الذي أنجبك فأنا والدك الذي علمك).
ويبدو أنه رحمه الله يعرف الوالد جيدا، ويعرف حبه للعلم، وتعلقه بالأدب، لأن هؤلاء المديرين في المصالح الحكومية عددهم قليل، ويعرف بعضهم بعضا، لتداخل اعمالهم، وتقارب اماكن عملهم.
والسبب في تخوفي من عدم موافقة الوالد رحمه الله ما سمعته من ان العم عبدالله المحمد العوهلي كتب له يقترح عدم سفري مع البعثة الى مصر، وحبذ له التحاقي بوظيفة في ديوان صاحب السمو الملكي الأمير فيصل، نائب الملك في الحجاز، وهي وظيفة شاغرة عن خالد البسام بعد وفاته رحمه الله وهم يبحثون عمن يملؤها حسب افادة سليمان الحمد البسام للعم عبدالله العوهلي، وسليمان احد موظفي النيابة البارزين. وسليمان يعرفني جيدا بعد رحلتنا معه من مكة الى عنيزة عندما عزم على الزواج، حسب ما ذكرته سابقا.\
وقد وردتني برقية من الوالد رحمه الله ردا على خطابي له بالبشري بنجاحي، وباستئذانه في السفر الى مصر، ضمن بعثة ذلك العام.
(سرنا نجاحكم. انضم لبعثة مصر).
وهي مؤرخة في 11/7/1264هـ وصورتها مرفقة. وكنت سعيدا بها لانها تساعدني على انهاء اجراءات السفر، وارساله الرد برقيا دلني على اهتمامه.
ومما يؤكد حرصه رحمه الله على سفري انه أردف البرقية بخطاب مؤرخ في 15/7/1364هـ، اشار فيه الى ارسال البرقية، وأمل ان يكون في الطريق اليه تفصيل عن البعثة مني. وذكر انه سوف يأتي قريبا من الرياض الى مكة، ولكن اذا سافرت الى مصر قبل مجيئه فعلي الاتصال اذا لزم الامر بالأستاذ ابراهيم السويل في المفوضية السعودية في مصر. ونص الجمل الواردة في خطابه كالتالي بعد الديباجة (صورة مرفقة):
(وصلتنا برقيتكم تبشر بنجاحكم. سرنا ذلك، ربنا يوفقكم للخير. وقد جاوبتكم بوقته في برقية بان تنضم لبعثة مصر، فلابدها وصلتكم لوقتها، واعتمدتم ذلك. ولابد كتابك قادم بالتفصيل، وأنا لابد بعد عشرة ايام اتوجه لطرفكم، وان كان حصل لكم السفر قبل وصولي فترى في المفوضية السعودية ولد لنا اسمه ابراهيم العبدالله السويل، اذا بدا لك لازم اتصل فيه ويقضي لازمك.
وحيث أنني اعرف اجتهادك فلا حاجة اوصيك، فقد اوصيك على شيء واحد وهو: لاتهمل امور دينك، ولاتهاون في الصلاة، ترى كل شيء اوله تهاون ثم يهون على الانسان تركه، وفيك ان شاء الله البركة. والله يحفظك في الذهاب والاياب ويوفقك).
وامامي مسودة رد لم تؤرخ، ويبدو ان تاريخها في الشهر نفسه (رجب)، وفيها بعد الديباجة:
(وصلنا عنيزة والعمات بالسلامة ما رأينا من فضل الله مكروها. ربنا يديم تسهيله على الجميع.
سيدي الوالد:
قبل سفري الى عنيزة بليلة وصلني كتابك، ولم اتمكن من رد الجواب. سرتني نصائحك ووصاياك، أرجو ان اوفق الى العمل بمقتضاها، آمين. كما أني سررت كثيرا بقرب قدومك الى مكة، لأن البعثة ستتأخر الى آخر رمضان، أو أوائل شوال، حسب كلام مدير المعراف، وهذا من حسن حظي ـ ان شاء الله ـ قبل السفر. ربنا يصحبك السلامة حالا ومر تحلا).
وصورة المسودة مرفقة، وهي بقلم الرصاص.
امر ابتعاثي مر بتأرجح، فأنا اكتب لوالدي محبذا الابتعاث والعم عبدالله يكتب له ويحبذ الوظيفة، والوالد في مرحلة من المراحل محتار بيننا، فبعد ان كتب لي بالموافقة على ابتعاثي كتب للعم عبدالله يوافقه على الوظيفة، وموافقته على ابتعاثي كما رأينا تاريخها 15/7/1364هـ، ولكن خطابا كتبه العم عبدالله العوهلي جعله يرجح الوظيفة على الابتعاث وجاء هذا في خطاب له للعم عبدالله بتاريخ 28/7/1364هـ. وهذا الخطاب في أوله حديث عن تزويجي، ولم يرد العم عبدالله ان يعطيني الخطاب كاملا فاقتطع من الخطاب أوله الذي يخص الزواج خوفا من ان يقع في يد الذين خبئ عنهم الأمر، ولكنه، والحمد لله، أعطاني ما يخص الابتعاث والوظيفة.
في هذا الخطاب وافق الوالد رحمه الله على اقتراح ان التحق بالوظيفة، وأن أصرف النظر عن الابتعاث، وجاء في هذا الخطاب، المرفق صورة منه:
(أما ما ذكرت من جهة الوظيفة في الديوان فأنا أوافق عليها، لأن لها مستقبل (كذا) أوفق من غيره مادام الذين متولين العمل راغبين، والولد حبيب، ويحبب لنفسه. وذكرت ان معاشه خمس مئة ريال، ولهذا أبرقت لك هذه البرقية:
(أوافقكم على الخمس مية).
من ذلك تفهمون، لأني ما احب اذكر في البرقية: (أوافقكم على الوظيفة).
توجب الالتفات، يحسبونها لي. فلابد البرقية وصلتكم، وخبرت عبدالعزيز بذلك، ولابدك ترغبه، وتخبره أن المراد مصلحته دنيوين، وهذه مصلحة ظاهرة وحاضرة، وبدون سفر الى أي جهة.
وسنرى ان العم عبدالله اخذ خطوة اخرى في كتاب آخر يعضد رأيه، ولكن إرادة الله غالبة.
وقد صح تخوفي من عرقلة سفري بسبب الوظيفة التي أشرت الى أنها شاغرة بديوان النيابة، والتي يبدو ان العم عبدالله العوهلي كان متحمسا لها، وكتب للوالد عنها. وقد اعاد رحمه الله الكتابة للوالد بخطاب في 12/8/1364هـ، وهو كتاب طويل جاء فيه عن امر البعثة ما يلي:
(ثم بيدنا مشرفكم محرر 28 الماضي (رجب). أسرتنا صحتكم، وكامل شرحكم فهمناه، وخصوصا ما ذكرتم من جهة الولد عبدالعزيز وموافقتكم على الوظيفة. وقد سبق ان عرفناكم بوصول البرقية، وأننا فهمنا معناها، وقد فهمنا ما ذكرتم من جهة التعليم والسفر الى تلك الجهات، وانه تبع توفيق الرجل، فهذا هو الحق بلاشك. والتعليم كما ذكرتم لايفسد الأخلاق، بل يحسن الاخلاق. لكن سيدي تعلم حالة البعثات اليوم، وما هم عليه من الأخلاق الفاسدة، وأنهم جميعا بدون استثناء لا يرغب الانسان العاقل الاجتماع بهم، ولا مخالطتهم، فضلا عن معاشرتهم. فعلى كل حال ان من خالطهم لابد وان يتأثر منهم، ويسلك مسلكهم، خصوصا والأسباب الداعية متوفرة لديهم، ولا هناك موانع تمنعهم، فبهذا لابد التأثر بأخلاقهم والعمل بأعمالهم، خصوصا وهم يحتقرون من خالفهم، او انتقد عليهم، ولايزالون به حتى يوافقهم على ما هم عليه من الأعمال والأقوال:
(عن المرء لا نسأل وسل عن قرينه..). فلأجل هذا لم نر ممن رجع من هذه البعثات الا وقد حصل من الشر أضعاف ما أدركه من العلم. نسأل الله الحماية، وأن يصلح لنا ولكم النية والذرية. فهذا شرحته مما اجده من الشفقة. وانني على يقين ان سيدي اشفق، واحرص على مصلحة الجميع مني. ربنا يديم وجودكم وسامحوني سيدي عن التطويل.
وقد ظهرت الى الطايف قبل أمس، وقد بحثنا أمس مع الأخ سليمان الحمد (البسام) من خصوص الوظيفة، وخبرناه بالحقيقة عن حالة الولد ومعرفته، وحفظه للأسرار، وماهو عليه ولله الحمد من مكارم الأخلاق، وانه يصلح لهم بلاشك ـ إن شاء الله ـ.
وأيضا حيث ان صالح الضبيبان صاحب لنا وللأخ سليمان فقد اخبرت صالح بالمسألة بيني وبينه، ورغبت انه يحضر بحثنا، لأنه يعرف من الولد ما يوجب انه يشير فيه ويمدحه، ولا قصر، ساعدني في الثناء عليه، وانه يصلح لهم. وفي النهاية يقول الأخ سليمان: والله أنه أحب الي من غير ه لأجل كلامكم. وإنني على يقين انه ـ إن شاء الله سينجح ويتوفق، ولكن لا يمكن البت في الموضوع الا بعد حضور الأمير فيصل والعم ابراهيم، وبعد حضورهم نقدم لهم الذي نراهم يصلحون. وحنانبي اثنين، ولكم علي اني سأجعل الولد عبدالعزيز هو الأول. وأيضا نعمل الأسباب مع العم ابراهيم الذي تدعو الى انهم يختارونه، والتوفيق بيد الله. نسأل الله ـ سبحانه ـ ان يختار للجميع ما فيه الخير والصلاح لأمر الدين والدنيا، إنه جواد كريم...
سيدي العزيز، أرجو ان تكتبوا للولد عبدالعزيز كتابا بأنه انعدل فكركم عن سفره مع البعثة، وأنكم قد عمدتونا على ما يلزم من تبليغ المعارف لأجل يقنع الولد عبدالعزيز، ونحن نتعذر من المعارف بما يناسب، ونقنعهم ـ ان شاء الله تعالى. ونحن ان شاء الله تعالى ـ ننتظر هذه الوظيفة، فان حصلت فالحمد لله، ونرجوه ـ سبحانه ـ ان يجعل العاقبة حميدة، وان لم يحصل هذه فسيحصل ـ ان شاء الله ـ خيرا من هذه او مثلها، أو قريبا منها. القصد ـ ان شاء الله تعالى ـ اننا نؤمل انه سيحصل له عمل احسن من البعثات، واشرف، ومصلحة حاضرة, فأرجو من سيدي الموافقة على ما ذكرته. ونسأل الله التوفيق لخير الدارين.
هذا الخطاب المرسل من العم عبدالله العوهلي من مكة الى الوالد في الرياض جاء في مرحلة دقيقة، فالوالد قد وافق على السفر الى مصر مع البعثة، والعم عبدالله يعلم هذا، و قد سبق ان كتب للوالد عن الوظيفة، وامتدحها، ذكر من جملة ما ذكر ان مرتبها 500 ريال في الشهر، وهو مرتب مرتفع ومغر عند مقارنته بما يعطى المتخرج من المرحلة الثانوية، أو غيره ممن هو في وظيفة مهمة. وبعض الوظائف، رغم اهميتها، يتحدث عن مرتباتها بالقروش لا بالريالات.
خطاب العم عبدالله هذا لم يترك وسيلة للاقناع الا ذكرها للوالد، حتى بعض الأمور التي لا اجد ان لها صحة، مثل الحديث عمن تخرجوا، وعادوا الى البلاد، ووصفه لهم ان اخلاقهم فاسدة، وركز حديثه عن جانب الفساد هذا، وتأثيره على من يخالطهم. ولا اذكر انه قد عاد في ذلك الوقت الا السيد احمد العربي، والسيد محمد شطا، وابراهيم السويل، وحسين فطاني، وعبدالله عبدالجبار، وعبدالله الخيال، وعبدالله الملحوق، والسيد ولي الدين اسعد (بقي في مصر، لأنه عين مديرا للبعثة). وهؤلاء جميعا كانوا على خلق متميز، ولهذا عينوا في مناصب مهمة تحتاج الى مؤهلين متميزين في خلقهم، وفي سلوكهم، ومن بين المناصب التي تقلدوها ادارات تعليمية او تدريس، أو مناصب في وزارة الخارجية، ولعله رحمه الله يعرف شيئا لا اعرفه عن غيرهم.
حماسه يدل على انه مؤمن بما قاله، وما فعله، اذ انه تعدى الأقوال، وذهب الى اقناع سليمان الحمد. والاستعانة بصالح الضبيبان، حتى وصلا الى ما طمأنهما الى ان المسعى أصبح ناجحاً، ولم يبق الا موافقة الوالد اولا، وسمو الأمير فيصل ثانيا، وبدون واحدة منهما لاتصلح الأخرى.
واني لفخور بموقف الوالد رحمه الله ومقاومته هذا الضغط، ونظرته الى الابتعاث، وهو بهذا يثبت انه سابق وقته في نظرته للعلم، ومدى فائدته، وادراكه اهمية التعليم العالي للفترة التي بدأت، وبدت مظاهر ما تحتاجه من المتعلمين. ولا استبعد انه رحمه الله قد تأثر بما رآه في الهند، والتطور الذي كان يمر به، وعربته الناقلة هناك هي العلم. ويؤكد نظرته هذه ما رآه فيمن تخرج من مصر وعلى رأسهم في ذهنه الاستاذ ابراهيم بن عبدالله السويل، قريبنا، وتكريمه بعد عودته من البعثة ومعه شهادة دار العلوم وتعيينه مدرسا في أعلى مراحل التعليم، أولا ثم حظوة وزارة الخارجية بنقله اليها.
ويبدو ان الوالد سبق ان رد على العم عبدالله بعض الحجج التي ابداها، ودل على ذلك اقتباس العم عبدالله في خطابه هذا لها:
(وقد فهمنا من جهة التعليم والسفر الى تلك الجهات، وأنه تبع توفيق الرجل).
إذا الوالد يفرق بين شخص وآخر، وان ثقته في تجعلني لا أدخل في جملة من وصفهم العم عبدالله انهم عرضة للتأثر. ولهذا فالعم عبدالله وافق الوالد على رأيه بقوله: (فهذا هو الحق بلاشك، والتعليم كما ذكرتم لا يفسد الأخلاق).
ولكن العم عبدالله لم ييأس من الوصول الى ما يقنع الوالد، ولهذا أردف: (لكن سيدي..).
ثم أخذ يسرد ما يراه من عيوب في البعثات، وتأثيرها على الأخلاق، وتأثير الاختلاط بأفرادها، واستمر يأتي بحجة بعد اخرى، ولكن لم يجد رحمه الله صدى عند الوالد.
ويبدو ان العم عبدالله في احد خطاباته اقترح ان اتزوج، وتصبح هذه هي الفكرة الثانية التي راسل عنها الوالد. وقد وردني خطاب من الوالد (مرفق، وتاريخه 11/9/1364هـ) عن هذين الأمرين وامور أخرى، منها ما طلبت منه من كتابة خطاب للأستاذ ابراهيم السويل، ووعد بذلك، وفي نهاية خطابه ذكر ما يلي:
(لان عبدالله ابدى لي بعض من طرف زواجك، ووافقته على واحد منها، ولكن ما توفرت شرطه (كذا)، وصرت متردد (كذا)، وقصدي ان شاء الله، بعد وصولي نتشاور في هذا الموضوع).
لما أراد الله انجاح امر البعثة سهل مجرى امورها، وقد سافر ابراهيم السليمان مع الأمير فيصل الى الرياض، فعرض عليه الوالد خطابي وخطاب العم عبدالله، فرجح ابراهيم السليمان رأيي، وتحمس له، وقال: (إنه بحول الله عين الخيرة)، ولم ير العمل في وظيفة خالد رحمه الله فسارع الوالد رحمه الله و(أبرق) لي برقية يشعرني فيها بما استقر عليه رأيه، وهي مختصرة: (واجهت ابراهيم، انضموا الى بعثة مصر). وأراد ان يعطيني وقتا للاستعداد. ثم أرسل لي خطابا بتاريخ 3/10/1364هـ اخبرني مفصلا بما تم، وبسبب ارسال البرقية.
ويبدو انه كان حريصا ان يراني في هذه الأيام قبل سفري، وأمل ان يجد مقعدا في الطائرة التي سوف تقل العم حمد السليمان الحمدان وكيل وزارة المالية حينئذ، ولكنه يخشى ان لا يجد مقعدا، لأن المقاعد ربما تكون مستوعبة. وهذا ما حدث فعلا رحمه الله فقد كانت لهجته متحمسة، ويبدو ان ذهابي لمصر مع البعثة هو ما كان يفكر فيه، وجاءته الحيرة من كتاب العم عبدالله.
والخطاب والبرقية مرفقة بهذا، وقد كتبا في يوم واحد.
الاستعداد للسفر:
الاستعداد للسفر تضمن عدة اجراءات، منها بعض الوثائق، ومن بينها وثيقة طريفة تتعهد بها مديرية المعارف (أعلى سلطة في التعليم) ان تكفل الطالب في مصر بما يظهر عليه من حقوق، وقد اعطتني احدى لدوائر في المديرية نموذجا لاخذه الى موظف آخر، يكتبه عني. وهذا نصه:
(تتعهد مديرية المعارف العامة بكفالة الطالب عبدالعزيز الخويطر، أحد أفراد البعثة العربية السعودية بمصر في كل ما يظهر عليه من حقوق، ولما ذكر حرر).
مدير المعارف العام
والوثيقة النموذج مرفقة، وبعدها الوثيقة التي ظهر فيها اسمي.
فائدة التسجيل:
لم يكن بامكاني بعد هذه المدة الطويلة ان اتذكر تواريخ تحركي من مكة الى جدة، ومدة بقائي بها، وأسماء الأيام التي قضيتها فيها، ولكن جاءتني نجدة من أخي حمد ـ رعاه الله ـ وهو صاحب نجدات، فوجدته قد سجل في مذكرة عنده كل هذه الأشياء التي كنت اتمنى ان اذكرها.
وكما هي في الوثيقة المرفقة:
سافرت يوم الاربعاء الموافق 13/10/1364هـ الى جدة، وبقيت فيها يومي الخميس والجمعة، ثم سافرت الى مصر عند الساعة السادسة (غروبي) يوم السبت 16/10/1364هـ، أي عند منتصف نهار السبت. بالباخرة (تالودي)، التابعة لشركة مصر للملاحة، ومن بواخرها الزمالك وعرفات ايضا، حسب ما أذكر.
النزول الى جدة:
اعددت السفر الى جدة، وفي الطريق اليها كان معي الاخ صالح الجهيمان، وكنا (متخاصمين) لسبب او اخر، قد يكون السبب امتدادا لحادثة الغش في الامتحان، الذي دخلته ولم يدخله الباقون. وفي القهوة اصطلحنا، لأن كلا منا شعر بحاجته الى الاخر في طريق الغربة، وأرض الغربة، وكانت وجهتنا الدراسية واحدة.
واستقبلنا زميلنا الطالب عبدالوهاب عبدالواسع، وكان هو (مطوفنا) في جدة. وتعرفنا على اللواء صالح المحمود، وكان مسؤولا عن خفر السواحل، أو أحد المسؤولين فيه. وكان رجلا دمث الأخلاق. وفي اليوم الثاني ذهبنا الى الميناء لنرى هذا الميناء حيث ترسو البواخر، ونحن أربعة أو خمسة، أحدنا يحمل (فردا) مسدسا يتدلى من كتفه. وخطرت لنا فكرة هي ان نصعد الى واحدة من هذه البواخر، وأخذنا نفكر بالطريقة التي تسهل لنا هذا لأمر، واقترح احدنا ان نتظاهر بأن أحدنا امير، ومعه حارسه، وان الاخرين (خويا)، وأجرينا القرعة على من يكون منا الأمير، فوقعت علي القرعة، فأقبلنا ففتحت لنا أبواب الميناء، ووصلنا الى الباخرة، وبدأنا نصعد درج سلمها، وفي منتصفها لمحت اللواء صالح في الردهة الداخلية للسفينة يتحدث مع شخص، وكان سوف يتجه بعد هذا الحديث، كما توحيه هيئته، الى السلم، (فانخرطت) بسرعة نازلا الى اسفل، وتبعني الباقون حين رأوا الذعر الذي ركبني، واستغرب حراس السفينة مما رأوا، ومما لم يعلموا، وقد عرف بقية اخواني الأمر المفاجئ المعجب، ولكن بعد ان وصلنا الى رصيف الميناء.
ثم اخذ بعضنا يلوم بعضا على هذه الفكرة، وعلى عدم التفكير في عواقب هذا التدليس، ماذا لو رآنا اللواء صالح بعد ان وصلنا الى الباخرة، ودخلناها، ثم التقينا به وجها لوجه في احد ممراتها؟ ماذا كنا سنقول له؟ هل نخفي اننا خططنا لهذا بالخطة التي وضعناها، ثم نفذناها؟ أو نقول، وهذا صحيح، أننا دخلنا، وما اعترض طريقنا احد، ولا سألنا احد من نحن. وبهذا نوقع الحراس في جزاء لا يستحقونه مقابل حسن ظنهم بنا، في حين اننا ابعد عن حسن الظن. وكلما انتهى احدنا من اللوم بدأ الآخر، وهكذا حتى انتهى ما في داخل قاموس اللوم والعتاب من كلمات وتعبير.
مثل هذه الأمور تحدث لغير العاقل بسهولة، لأنه ينظر الى الجانب المفيد له، الجانب البراق، وينسى ما قد يحف بخطته من أخطار، وما قد يواكب فكرته من قصور، وما قد يصاحب ذلك من مفاجآت، وما قد ينتج عنها من آلام.
من ذكريات جدة:
عندما نزلنا الى جدة سكنا عند الأخ احمد بن زيد الخيال رحمه الله صديقنا الموظف بوزارة الخارجية، وهذا البيت كان مقر وزارة الخارجية سابقا، ثم حول الى سكن لموظفي الخارجية العزاب بعدان انتقلت الوزارة الى مبنى جديد، وجرى الحديث اثناء سمرنا في الليل عن الجن، وكيف ان الانسان يجب ان لا ينام في ممر، لأن الممرات طريق لهم، فقد يؤذونه. وانتهت السهرة، واتخذ كل منا مضجعه، ونام زميلنا (ع. ح) في مجرى الهواء في الغرفة امام الشرفة، ويبدو ان احدنا ممن كان يريد ان ينام في مجرى الهواء داعبه بعد أن نام، وأوهمه انه جني، وان حركته اريد بها تنبيه له، لأنه نام في طريق الجن، فاستيقظ (ع. ح) من نومه مذعورا وأيقظنا، وقال: ان الجن أيقظوني، فضحكنا لانه بدا لنا أنه مؤمن بما قاله احد الزملاء قبل النوم، وتظاهر بخلاف ذلك، وهذا كان يقصد ان يبعده عن تيار الهواء المنعش، ليتمتع به هو، فكابر (ع. ح) قبل النوم، في امر الجن، وقال انه لايؤمن بهذه الخرافات، وأنها تصورات واوهام، لا يصدقها العقل، ويبدو ان هذا كان في الظاهر في حين ان عقله الباطن كان خلاف ما أظهر، ولهذا فبمجرد ان دخل عينه النوم اختلف الامر، وظهر المبطن، وتجهم الامر في ذهنه. لقد أخذ وقتا وهو يرتجف امامنا، وهكذا نجح زميله في خطته، وتمتع بمجرى الهواء، وزميله هذا لايمكن ان يخشى الجن فالجن هم الأقرب الى ان تخاف منه.
وأمور الجن دائما هي حديث الناس، وهي لا تقتصر على مجتمع دون مجتمع، واذا كان عندنا في الشرق الجن، فعند الغربيين أوراح الموتى، وهي تقوم عندهم مقام الجن عندنا.
استدراك (أمر به وعليه):
أوردت في هامش صفحة (323/1) قول الشيخ قاني المنصور ورده علي عندما قلت له أمر عليك، وطلبه مني ان اقول أمر به لا عليه.
وأود أن أوضح هنا أنه رحمه الله لم يعترض على ما قلته الا لاني في السيارة، ولو كنت سائرا على قدمي لما اعترض. وقد ورد في القرآن الكريم في بعض الآيات مر عليه ومر به، وذلك حسب التفصيل الآتي:
1ـ في سورة البقرة: (آية 259) يقول الله سبحانه وتعالى: (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها).
2ـ وفي آية ثانية: (يوسف: 105) (وكأين من ءاية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون).
3ـ وفي آية ثالثة: (الصفات: 137) (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين).
4ـ والسورة الرابعة: (هود: 38) (ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه).
أما الآيات التي وردت فيها الباء بدلا من (على)، فهي الآتية:
1ـ سورة الأعراف: (آية: 189) (فلما تغشها حملت حملا خفيفا فمرت به).
2ـ والسورة الثانية: (الفرقان: 72) (والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما).
3ـ والسورة الثالثة: (المطففين: 30) (وإذا مروا بهم يتغامزون).
وبعد:
هذا ما استطعت ان اتذكره عن مكة ووصولنا اليها، وبقائنا بها، ودراستنا فيها. وخريطة مكة القديمة هي التي بقيت الآن في ذهني، أما مكة الجديدة فقد اصبحت فوق استطاعة استيعاب ذهني، وعندما قمت قبل سنتين مع صاحبي المعالي الاخوين الدكتور مطلب ابن عبدالله النفيسة والدكتور مساعد بن محمد العيبان برحلة على الاقدام في مكة لم اعرف مكان الجودرية ومكان المعلاة الا بالمساجد، وان كانت المساجد اتسعت، ولكن جزءا منها بقي في موقعه السابق، ولم يعد لمكة المكرمة القديمة معالم الا المساجد والمقابر: فبرحة المولد اختفت، وشعب عامر اختفى وكذلك الفلق والسوق الصغير والمسيال.
أرجو ان يجد من هو في سني من زملائي في مكة اني كنت أمينا في رسم صورة مكة التي يعرفونها، وان يبرز منهم نشيط يدون مذكراته، فلعله يضيف الى ما قلت شيئا نسبته، أو يفصل شيئا اختصرته، او يبين صورا جاءت باهته في كلامي، وأهل مكة أدرى بشعابها.
ولا أعذر احدا من زملائي في مكة بأي حال من الأحوال، فالامساك بالقلم غير مضن، والورق لن يئن ولن يشكو من تسويد وجهه بأنوار الذكريات،وهي امانة في عنقنا للأجيال المقبلة، وحق علينا لمن سلفوا، وأدوا الأمانة خير اداء، وكافحوا، وتعبوا وعانوا، وصبروا على الحر والسموم، وجاهدوا الذباب نهارا، والبعوض ليلا، وشظف العيش ليلا ونهارا. فلا أقل من ان نخط شيئا يجعل القارئ يستنزل عليهم رحمة الله، ويسأله ان يجعلهم في جنات النعيم، وهم ما بين أب، وأم، ومدرس، وجار، وصاحب معروف.
د. الخويطر في سطور
? ولد عام 1344هـ في مدينة عنيزة في القصيم في المملكة العربية السعودية.
? جزء من دراسته الابتدائية بعنيزة وجزء منها والثانوية في مكة المكرمة.
? حصل على الليسانس من دار العلوم في جامعة القاهرة عام 1371هـ.
? حصل على الدكتوراة في التاريخ من جامعة لندن عام 1380هـ.
? عين في العام نفسه امينا عاما لجامعة الملك سعود.
? عين وكيلا للجامعة عام 1381هـ حتى عام 1391هـ
? درس تاريخ المملكة العربية السعودية لطلاب كلية الاداب.
? انتقل رئيسا لديوان المراقبة العامة لمدة عامين ثم وزيرا للصحة ثم وزيرا للمعارف.
? عين في عام 1416هـ وزير دولة وعضوا في مجلس الوزراء.