DAMMAM
الخميس
34°C
weather-icon
الجمعة
icon-weather
34°C
السبت
icon-weather
37°C
الأحد
icon-weather
33°C
الاثنين
icon-weather
34°C
الثلاثاء
icon-weather
36°C

وسم على أديم الزمن

وسم على أديم الزمن

وسم على أديم الزمن
أخبار متعلقة
 
تستأنف "اليوم" تقديم هذه اللمحات من الذكريات تحت عنوان (وسم على أديم الزمن) لمعالي الاستاذ الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر بعد فترة توقف.. والذكريات وان دونت سيرة حياة صادقة وصريحة لشخص بقدر الدكتور الخويطر إلا أنها تستعيد الكثير من الصور عن اماكن وأزمنة ماضية كما تتضمن العديد من المعلومات الهامة التي وثق بعضها بالأرقام والإحصائيات التي يمكن أن تضيء للشباب بعض ما يجهله عن الماضي من عادات وتقاليد ونظام حياة وعمل وجوانب اجتماعية وتاريخية عديدة. البريصي: من فصيلة هذه الحشرات الزاحفة، ولا يعيش الا في البر، وهو إذا أحس بالخطر تجمع لون أخضر فوق رقبته، وخلفها على ظهره، ويقال انه سم، وكنا نسمع عنه ونصدق مالا نصدقه الآن، وهو انه يسقي الحية سمها. وسبق أن تحدثت في رحلتين للبر مع والدي من الرضاع، عن أني صدته غير عارف لما فيه من خطر. هذه الدواب الصغيرة كانت تأخذ من وقتنا في القيلولة نصيبا وافيا، وهي تستحق ذلك، ففي متابعتها متعة، ولكن يغلبها في ذهننا، وفي نشاطنا العصفور فلننتقل اليه. العصافير العصفور طير غير أليف، ومع هذا فهو يشاطرنا البيت، يختار منه المكان الذي يشاء والذي يجد فيه الأمان، له ولبيضه ولفراخه، وصوته يطربنا، ومنظره يبهجنا، ومشيه يعجبنا، وطيرانه يشدنا. لطيرانه بهجة، ولو قوعه مثلها، ولا لتفاتته جمال، ولنقده للحب خفة وفن. يأخذ من وقتنا في القيلولة شيئاً كثيراً، فهو مثلنا لاينام في هذا الوقت، ولا يرتاح، تراه اما قادما وفي فمه أكل أو ماء لفراخه، وصوته يسبقه ويلحقه. الذكر من العصافير اسمه في نجد (الكحالي)، ولعل هذه التسمية جاءته من سواد في رقبته تحت منقاره، نعده لحية له، والأنثى اسمها عندنا (الأمية)، عند المقارنة بين الذكر والأنثى، يبصر الدقيق النظر أن الذكر أكبر قليلا من الأنثى. والعصفور صديقنا على الرغم من أنه غير أليف، وعشه وهو أغلى ما عنده موجود عندنا في البيوت، ولكن لكثرته، لا تحرم البساتين منه، ولا (القلبان) (الآبار)، وأي مكان صالح للعش بعيد حسب تقدير العصفور عن الخطر، مثل (القبب) (جمع قبة) في الشوارع، والمساجد، تجد العصفور في الفجوات من هذه الأماكن، وبين اللبنات، في (فرجة) (نافذة) قد سدت (لطست)، ولم (تليص) من الخارج، تجده في (المشاقيص) في القلبان، ومكانه المفضل بين حشب السقوف. وعش العصفور معروف، لأنه يأوي إليه في النهار أمام الناس، فإذا وضع بيضه في عشه سمي (مفرخة)، والجمع (مفارخ) ويخبر الصغار بعضهم بعضا بالمفارخ التي تكثر في الصيف، وهم يراقبون (المفرخة)، فاذا (صوصت) (الحوقلة) عرفوا ان البيض قد فقس، فيبدؤون يرقبون (الأمية)، وهي تأتي (تزقم) الحوقلة حبة القمح، أو يرقة فراشة، أو فراشة صغيرة، أو (نقدة) من تمرة. ونحن نرقب ونتابع بامعان تقدم الصغير، فاذا نبت ريشه سمي (مطيارا)، وبدأ يقف في مقدمة العش، لأنه لا يصبر حتى تأتي أمه، هو بهذا مثلنا عديم الصبر، والعجلة ديدننا وديدنه. ثم تبدأ خططنا للاستيلاء عليه، وعندنا من الحيل ما يجعل الجهد مكللا بالنجاح. وأتصور شعور الأم عندما تعود، ومعها رزقه، فلا تجده، وحين تراه معنا تملأ الدنيا حولها صياحاً، وتنقلا من جهة إلى أخرى، وتقوم بكل ما يمكنها من إظهار سخطها، ولكن دون جدوى أمام قلوب لا تعرف الرحمة، وليس عندها من الإدراك ما عند الكبار، الذين يقدرون لوعة المصاب في ابنه. ومع هذا كنا نحرص ما أمكننا أن نخفي ابنها عن عينها، ولسان حالنا يقول: اذا كان شرنا أصاب العصفور فلتنل الأم خيرنا باخفاء جريمتنا، ولكن صياح ابنها تجاوبا مع صياحها، يفضحنا، ونشعر ان الذنب ذنبه لا ذنبنا!. وأحيانا لا ندري عن العش، ولا عن المفرخة، لأنها تكون في مكان غاب عن نظرنا، أو بعد عن متناولنا، فيطير (المطيار)، فنعثر عليه في الأرض في انتظار أمه، فنطبق عليه، وأشهد أنه يحاول جاهدا أن يفلت منا، وقليلا ما نجح في مجهوده هذا، وفي أكثر الأحيان تنزله أمه لأول مرة في الصباح الباكر ونحن نيام، فتجده احدى النساء في البيت، فتبر به أصغر الأطفال سنا، وهذا من اكبر مسببات الفرح، لقد جاءت بغيتنا فجأة، وبدون تعب!. والعصفور من أجمل الطيور مشيا، فهو (ينقز) (يقفز) قفزا في مشيه، بطريقة رشيقة، مرفوع الرأس، ممشوق القوام، أحيانا قفزة واحدة ثم يقف، وأحيانا أكثر من قفزة، وتصل أحيانا قفزاته إلى سلسلة منها، وكأنه يسير على سلم موسيقي. ونعرف (المطيار)، الحديث الطيران، من صفرة تبقى منذ أن كان (حوقلة)، على مؤخرتي منقاره، وصوته قبل رؤيته يدل عليه كذلك. والعصفور يقف على الأغصان، وعلى الأعواد، وعلى الجدران، لأن أقدامه تساعده على ذلك. و(الحبالات) جمع حبالة (المصائد)، التي ننصبها لصيده أنواع، وفي الغالب تكون التمرة هي (الطعم)، لأنها أقرب إلى متناولنا، وتأتي أفضليتها عند العصفور، بعد حبة القمح، توضع (الخية) (جزء من الحبالة) وهي الحبل الذي يوضع بطريقة (تكاكة) فوق التمرة، فإذا أدخل العصفور رأسه ليأخذ من التمرة، وجاء بأدنى حركة تطبق عليه الخية إطباقة فم القط على صيده، ونكون نحن قريبين منه، فنأتي راكضين لتخليصه منها، ونقله إلى أيدينا التي لا رحمة فيها. والعصفور يستكن في الليل، ويسرح في فضاء الله في النهار، يبحث عن رزقه، ويؤدي ما عليه في حياته من واجبات تجاه نفسه وزوجه وفراخه ان وجدت. وهناك قصة رمزية، تقص أحوال العصفور وحيلة الذكر منه على الأنثى: يقال أن الكحالي في الشتاء، عندما يأتي وقت النوم، وتأوي العصافير إلى بيوتها يقول لزوجه: (إن الهوام تبحث الآن عن الدفء، ولهذا تدخل إلى بيوت العصافير، تستكن فيها، وتذهب إلى أعماق البيت، ولهذا سوف أدخل إلى هذه الأعماق لأحميك مما قد يكون هناك من خطر ينتظرك لينقض عليك. وفي فصل الصيف يقول لها خلاف ذلك: ادخلي أنت داخل البيت، لأن الأعداء الآن يبحثون عن المكان البارد، وداخل البيت حار، وأنا سأكون خارج البيت عند بابه، لأحميك من أي خطر داهم. وهو في كلا الحالين يبحث عما ينفع نفسه، ففي الشتاء يحظى بالدفء في عمق المكان، وفي الصيف يحظى (بالطراوة) والنسيم العليل في خارج البيت. وبعد أهدي هذه القصة للنساء حجة في أيديهن، ودليلا على أثرة الرجال!! هذا إذا لم تكن احداهن هي التي وضعت هذه القصة!. وقد يقول بعض الرجال: إن هذه القصة أتت من ذكور الطيور ولا تنطبق على الذكور من الناس. وأنا أقول ما دام الأمر عن الذكور والإناث (فكله طير). ولعل بعض القراء لم يسمع بقصة (كله طير)، وهذه هي (للإحماض): قيل إن رجلا من أصحاب العقول المتحجرة ذهب إلى الجزار واشترى قطعة لحم ووضعها في زنبيل وضعه على رأسه، فجاءت (جليماء) (حدأة)، وانقضت على الزنبيل وخطفت اللحمة، فاغتاظ الرجل غيظاً شديداً، وقرر ان ينتقم، فلما وصل إلى بيته أخذ عصا المكنسة، وراح يضرب الدجاج الذي في بيته، فاستغربت امرأته هذا التصرف منه، وسألته عما دعاه إلى هذا. فأخبرها بخبر الحدأة وخطفها اللحم، فقالت: ولكن الدجاج لم يخطف اللحمة، وهو ليس بحدأة! فقال: كله طير. ونحن نقول: كله ذكور. النجوم من الأمور التي كنا (نتمقلها) (ننظر اليها بامعان) النجوم، كانت تأخذ وقتا كافيا من تفكيرنا في الليل، وهي سلوتنا ونحن وحدنا أو مع أهلنا على سطح البيت، وكنا عندما نصعد للسطح لا يكون معنا نور، وإذا كان هناك سراج فهو يوضع في (المنفوح) المبيت، بعيدا عنا، ليكون مهيأ لمن يريد أن ينزل إلى المصباح، أو إلى أسفل البيت. ونحن ـ نحمد الله ـ على أنه لم يكن هناك نور، والا كان أنقص من صفاء الجو الذي يمتعنا بالنجوم اللامعة كأنها (شذر) (كسر زجاج). كنا نستلقي في فرشنا على ظهورنا نسمع بعض الحكايات الخيالية التي تهيؤنا للنوم، لهدوء من تقصها وتأنيها، ولدغدغة النوم لها هي كذلك، وكثرة تثاؤبها، وتبدأ الجملة أحيانا فيغالبها النوم فتصبح مثل (الجرامفون) الذي انتهت (تمليته)، فنوقظها، وتسألنا أين وصلت في قصتها؟ فنرشدها، ثم تعود للقصة، ثم للنعاس، حتى تنام وننام معها. وهي مثلنا مجهدة، فهي تعمل طوال النهار، لا تجد راحة، ولهذا ينام أكثر الناس بعد صلاة العشاء مباشرة. هذا ما يحدث عندما تكون أمهاتنا معنا، ولكنهن احيانا يكن في اسفل البيت مكملات لعمل النهار من طحن وغيره، أو على سطح آخر (يعبطن)، (العبيط)، وهو تخليص تمر السكري أو المكتومي من نواه وقشره، وعجنه، ليحتفظ به للشتاء فهو وجبتنا الرئيسة فيه في الصباح. حينئذ نتفرغ للنظر إلى النجوم بامعان ومتعة، وهي تتلألأ فوق رؤوسنا، فهذا (المجر) مجر الكبش، كبش ابراهيم عليه السلام الذي جره جبريل فداء لاسماعيل، وهذه بنات نعش السبع واضحة متميزة في موقع كل واحدة بجانب أختها، وهذه هي الثريا، وهذا هو المرزم مقبل عليها، ولكنه لا يصل اليها، وتدور بينهما المحاورة التالية: (أنا المرزم واجيك أرزم وأحت الشوك بمخلاتي). فترد هي بتحد وثقة: أنا الثريا بنت العليا ما تلحقني يا مسكين. وإذا مللنا من عدها ومتابعتها وتخاطفها، أخذنا نغني بعض الأغاني التي يحفظها الأخ صالح الحمد القرعاوي، ابن عمتي، وقد أخذها ممن هو أكبر سنا منه، وأذكر منها: ألا يا الله يا غافر ذنوبي وأنا إن زليت لا تزر عليه احب الصدق ماني بالكذوب ولا لي بالعلوم القلبية ونظرنا إلى النجوم لا يخلو من بعض ما ينغصه، فقد كنا نحذر من عدها، لأن من عدها يخرج على جلد يديه (ثواليل)، ولا أدري ما هي الصلة بين النجوم والثواليل، أو ما هو الخطر الكامن من عدها، مع أن الأقرب إلى العقل والمنطق ان نحث على عدها، لأن هذا يساعدنا على النوم. ولكن من حسن الحظ أننا كنا ننسى هذا التحذير بجانب بهجة عدها، والتسلي بذلك. ونحن لا يزعجنا ان نعلم أنا أخطأنا ما دام ليس هناك مجال لنمسك بالجرم المشهود، فقد نعدها بصدورنا دون ان نحرك شفاهنا، ولكن الذي يزعجنا هو علاج الثواليل اذا صح القول وظهرت في أيدينا، لأن دواءها حينئذ في حرقها، بتحمية رأس (المخيط) الذي يشبه الابرة في تصميمه، لكنه أمتن نمها، وهو في طول القلم، تخاط به أكياس العيش (القمح). ثم اكتشفنا بعد ان انتقلنا إلى مكة أن دواءها بوضع خل مركز عليها، وهي حبيبات تجف مع الوقت، فتشوه منظر اليد. ولعل فكرة عد النجوم وجلبه للثواليل من بقايا الجاهلية، وما أكثر الخرافات التي بقيت من تلك الأيام، ومنها أن الشخص إذا مر من فوق شخص مضطجع طلب منه أن يعود، فإذا لم يفعل فسوف يموت قريبا ذلك الرجل المضطجع. وخرافة أخرى مفادها أنه لا يقبل جالس ان يقف خلفه فوق رأسه احد، وحينئذ يلتفت الجالس إلى الواقف ويقول له مؤنبا، إنك سوف تمص دم رأسي. وخرافة أخرى: من حك عينه بيده فعليه تقبيل يده!. ومثل وضع مجموعة من الروائح العطرية، أو المر والحلتيت في صرة صغيرة يعلقها (المطهر) في رقبته، حتى لا (يستشم) الجرح!، ومن مرضت عينه صر قطعة مر أو حلتيت في طرف غترته، وشمها اذا شم رائحة عطر، أو شك ان من أقبل عليه ممن يداوم على وضع العطر. السحارات وتمر من فوقنا في الليل ونحن على السطوح فرق من الطيور المهاجرة، ويقال لنا: إنها السحارات، وعلينا ان لا ننظر اليها، لأنها أحيانا تسقط قرن (زباد) اذا كانت راضية، وان لم تكن كذلك أسقطت عليه يد هاون. وننصاع للأمر، ونحرم أنفسنا من منظر لو تمكنا منه لآنسنا، على كل الظلام كفيل ألا يرينا اياه رؤيا تملأ النفس. ويسبح خيال القصص عن السحارات بما يبهجنا، ويؤنسنا، ونصدقه، ولا نشك في أن ما يقال لنا هو حقيقة، فمن هن هؤلاء السحارات؟ ومن أين يأتين؟ والى أن يذهبن؟ والجواب عن تلك الأسئلة وغيرها يأتي في قصتهن الطريفة الآتية: هن فتيات يأتين من عمان، بلد السحر، والسحر فيها منتشر إلى حد أن الإنسان يحذر هناك من أن يخرج في الصباح دون أن يأكل شيئا، فان خرج أصبح عرضة لسحرهن، ومن سحرهن له أنهن يرغمنه على ان يلتفت لهن، وهن يطللن من نافذتهن، فاذا نظر اليهن أغرم بهن، وذهب اليهن، وصار طوع امرهن. فاذا أقبل الليل يقوم بعضهن برحلة يعبرن بها جو الجزيرة العربية، ووسيلة انتقالهن (نبع) نخلة، (ينخبنه) (يجوفنه)، ويفرغنه من الداخل، ويركبن، ويتوقف عددهن على حجم النبع، ولكن الغالب ان يكن اثنتين أو ثلاثا، وليقلع يقلن له: (طر بين انثيين أو ثلاث)، فيطير ويمر بهن على نجد، فاذا رأين غديرا نزلن عليه وتبردن، ولعبن، ثم طرن وعدن أدراجهن إلى عمان. وفي احدى هذه الرحلات طار النبع باثنتين، فلما رأتا غديرا نزلتا عليه، وفاجأهن فارس أقبل ليسقي فرسه، فرآهما تسبحان، فانفرد باحداهن، فلما عادتا إلى (الجذع)، وركبتاه وقالتا له الكلمة السحرية المعتادة: (طربين انثيين) لم يطر، فنظرت احداهما إلى الأخرى، فتفاهمتا بالنظر، فجاء الأمر للمركبة: (طر بين انثيين وذكر) فطار. ولو لم يطر لقالتا: (طر بين ثلاث أناثي، أو أربع، أو ثلاث وذكر)!!. وكنا ننام في منحنيات احدى القصص التي قد نسمعها اكثر من مرة في الأسبوع، وكانت تتسابق قصة السحارات مع قصة خضير الحصان المتجنس (جني)، وأم العنزين، وغيرها، وكل طفل حسب سنه، أحدهم يطلب هذه، وآخر يطلب تلك، ويقوم نقاش تنهيه الوالدة التي تقص بأن تبدأ القصة التي تختارها، وتجعل الجميع أمام الأمر الواقع. وقد جمع هذه القصص الشعبية استاذي الكبير عبدالكريم الجهيمان في كتاب له نفيس سوف يكون في يوم من الأيام مادة ثرة لدراسة أكاديمية تظهر كيف كان التفكير في تلك الأيام، وتكشف عما وصل اليه هذا التفكير، وصلته بالحاضر، وهذا بالطبع موضوع مهم. واذا كانت النجوم متعة للعين، فمتعة الأذن هي سماع القصص، بالاضافة إلى متع اخرى، فلأذن متعة كذلك في الأصوات التي تأتيها من بعيد أو قريب، يحملها الليل على جناح نسيمه، يقوى الصوت أو يضعف، ولكنه مطرب، حتى ما قد يكون منه نشازا، فهو في الليل يتدثر بدثار مقبول. ونحن نسمع صوت بعض الختامة، وهؤلاء هم الذين (يفزعون) لأقاربهم أو جيرانهم، في حرث أرضهم التي لم يتمكنوا من حرثها في النهار، والأقارب والجيران يرحبون بهذا، لأنهم سوف يردون لهم جميلهم هذا عند الحاجة، فصوت الختامة مطرب، ولو أننا في تلك الأيام لا نفهم ما يقولون، حتى لو كنا قريبين لأن تداخل الكلمات حسب النغم يجعل من الصعب فهمها، ولكن النغمة كانت شجية. والعجيب أن أصوات الحمير في الليل شجية، يحملها الهواء من مكان بعيد، فيصفي ما فيها من (نكر)، ونشاز، ولا يبقى الا الصوت الذي ننام بسببه، وربما حلمنا بعد النوم بهذا الصوت، وهل هناك ما يمكن ان نحلم به عن الحمار الا ركوبه. ولا يبعد عنه نباح الكلاب بالليل، فنحن نقبله ونتساءل هل هوعراك بين الكلاب أم هجوم على ذئب، أو تحرش بانسان، ويأخذنا الخيال ما شاء له. وأما نعيق البوم وهو قليل، فإنه على الرغم من أنه (نعيق) إلا انه كذلك مطرب، يخلف ذكرى استعيدها كلما رأيت بومة أو سمعتها. لقد كنا ندير هذه الأمور في أفكارنا، ندرسها، ونتدبرها، ونتبصرها، تأخذ منا وقتا يشبع نهمنا كأطفال إلى المعرفة، ويشغل وقتنا، ويبني صرح تجربتنا، ويضع الأسس لما سوف تكون عليه هذه التجربة دون أن ندري. تحدثت أول ما بدأت حديثي، عن هذا الجانب من نشاط في تلك السنين، عن نشاطنا في القيلولة، وأهميتها لنا، وما نفعله فيها من متع لنا فيها، هي أحيانا آلام لغيرنا، وسأختم هذا الحديث عن نشاط لغيرنا في زمننا عن القيلولة، وما فيها من ملامح عن لذة فريق على حساب آلام فريق آخر: عين قاض في احدى قرى القصيم، وربط به قرى أخرى تتبعه، فسمع سكان احدى القرى بهذا التعيين، فذهب اليه متخاصمون منهم وقت القيلولة، بعد ان اوضعوا سوانيهم: طرقوا بابه، فقال لهم من الطارق؟ قالوا: متقاضون. قال: قيلوا فان الشياطين لاتقيل. قالوا: الذي يأخذ مئة صاع ومئة وزنة لا يقيل. ـ مشيرين بذلك إلى ما يحصل عليه القاضي من بيت المال من قمح وتمرـ مقابل عمله ـ. قال: من أين أنتم؟ قالوا: من القرية الفلانية. قال: لقد ظننت ذلك لأنه ليس فيها إلا أعوج. قالوا: وهل يأتيك إلا الأعوج. قال: والزبدة؟ قالوا: لا زبدة بدون خض، اخرج واقض بيننا. وخرج وجلس على عتبة الباب، كالمعتاد، وقضى بينهم، وانصرفوا، وضاعت على القاضي القيلولة. الأعياد الأعياد في كل بلد، وعند كل جنس، وفي كل دين، هي أيام بهجة وفرح، يلبس لها الجديد، ويقدم فيها أحسن أنواع الطعام، ويتهادى الناس حسب عاداتهم وتقاليدهم. وعندنا في المملكة عيدان، وهما العيدان اللذان حددهما الدين، أحدهما عيد رمضان، يأتي بعد شهر الصوم، والثاني عيد الأضحى وقت الحج. وفي أيام العيد في عنيزة، مثلما هو في غيرها، تعم الفرحة، ويدخل البشر كل بيت، الغني فيه يعطف على الفقير، ولكل بهجته، والرجال لهم مجال فرحتهم وسعادتهم التي لاتخرج عما يرونه يرتسم على وجوه من هم في ذمتهم، والنساء لهن فيه ما يبهجهن في انفسهن، وفيما يرينه في أولادهن. والصغار لهم القدح المعلى من يوم العيد وليلته، وكأن العيد في الأساس لهم، والباقين تبع لهم. والفرحة في يوم العيد تأتي من لبس الجديد، ومن الذهاب إلى مصلى العيد، ومن زيارة الأقارب والحصول على (الحقاق)، وهي هدايا العيد من حمص وحلوى، وملبس، وكشمش (اللوز السوداني)، وفي النادر زبيب. والحلوى هي ملكة (الحقاق)، وغالبا ما تكون سكر نبات، وحلاوة روح الحلقوم، وقد تكون مما يأتي من الشام. وليلة العيد يسمح فيها للصغار بالسهر (للتعلل) (السمر)، ويكون هذا على (تنقيم) الحب (الفصفص)، فاذا كان حب قرع فهذا غاية المنى، ويتبع ذلك ما يمكن الحصول عليه من لوز (بندق)، أو قعقع (عين الجمل)، وتمر يبيس، وغير ذلك من أشياء لا يحصل عليها بعض الصغار الا في النادر. وفي صباح يوم العيد يرى أثر السهر على وجوه بعض الصغار، فيأتون لمصلى العيد ذابلي الأجسام، مصفري الوجوه، ساهمي الأعين، (ينودون) (ينعسون) وقت الخطبة، فلا يستفيدون مما يقال، وقد لا يعقلون صلاتهم. وأذكر اني بعدما عدنا من صلاة العيد في احد الأعياد، ذهبت إلى القهوة حيث جدي وعمي يجلسان لاستقبال المهنئين والزوار، وكنت في سن تسمح لي بأن أشاركهم الاستقبال والتهنئة، لاحظا، وأنا قريب من (الوجار) حيث النار، أني (أنود) وأن رأسي (طرخ) (مال) في احدى مرات (النودان) حتى كادت النار تلمس وجهي، وكان الوقت شتاءا فرحموني، وطلبوا مني أن أذهب لأنام، فذهبت ونمت نومة عيد لذيذة على سطح البيت في الشمس تحت غطاء ضاف دافئ.