DAMMAM
الخميس
34°C
weather-icon
الجمعة
icon-weather
34°C
السبت
icon-weather
37°C
الأحد
icon-weather
33°C
الاثنين
icon-weather
34°C
الثلاثاء
icon-weather
36°C

حسن السبع

حسن السبع

حسن السبع
حسن السبع
أخبار متعلقة
 
كتبت مرة مقالا بعنوان (أهمية أن لا تكون جادا) فاستفز العنوان أحد الأصدقاء، وكأنه دعوة إلى اللامبالاة، واعترض هاتفيا ناثرا في سياق اعتراضه الكثير من الكلام الذي (في حدِّه الحدُّ بين الجد واللعب) كما يقول أبو تمام. قلت له: (إن الكتاب لا يقرأ من عنوانه فقط، وعليك أن ترى إلى أين يقودك العنوان وكل العناوين الأخرى التي تزخر بها الحياة). تذكرت بعد تلك المكالمة شذرةً للشاعر أدونيس تقول: (ما أشد الحاجة إلى اللامبالاة الحكيمة، البارعة)! وهي عبارة تكاد تلامس العنوان موضوع الاعتراض. وتساءلت: كيف سيقرأ صاحبي تلك العبارة؟ هكذا تحولت ملاحظته إلى نواة للكتابة عن التلقي الناعس، والنقد الأكثر تثاؤبا. الحديث عن التلقي والنقد ذو شجون، إذا ما تعلق الأمر بقراءة أو نقد الحياة، ذلك النص الكبير المفتوح لكل ذي عينين. لكننا، الآن، أحوج ما نكون إلى قراءة الحياة، بعد أن غرقنا في النصوص بمختلف أشكالها. كما أننا أحوج ما نكون إلى ذلك النقد الذكي العميق المثقف. فمن السهل أن ننتقد، ولكن من الصعب أن نحسن القراءة، ومن السهل أن نقرأ، ولكن من الصعب أن نمتلك أدوات القراءة المتأنية الموضوعية، وأن نستخدمها استخداما مجردا من الهوى وسوء الفهم. تبدو كلمة نقد، بعد أن أسيء استخدامها وحرف معناها، ثقيلة على النفس. تبدو استفزازية صادمة جارحة ومنفرة، لذلك تأتي ردود الفعل لدى سماعها مشحونة بالتوتر والقلق والخوف، فتدق طبول الحرب، وتعلن حالة الاستنفار القصوى، وتقام، عندئذ، التحصينات والمتاريس والاستعدادات الدفاعية. كلما ذكرت كلمة (نقد) تحسس بعضهم مسدسه، أو تحسس موقع قدميه خشية أن تميد به الأرض. وما دام الأمر كذلك دعنا نستبدلها بكلمة (قراءة). فهي كلمة هادئة، تعني التأمل، وتعني الفرز والتحليل والاستنباط والبحث عن المعنى، وقد لا تستفز أحدا. يتحدثون، يا صديقي، عن الأمية الثقافية ويخترعون لها تعريفات كثيرة، لكن أقرب تلك التعريفات إلى الصواب، كما أظن، هو عدم القدرة على قراءة الحياة قراءة نقدية واعية. قراءة الحياة هي قراءتنا لأنفسنا ولغيرنا، لمزايانا وعيوبنا، للزوايا المضيئة والمعتمة في حياتنا، ولكافة أشكال السلوك الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي، شريطة أن لا يكون النقد من أجل النقد، والاختلاف من أجل الاختلاف، والجدل من أجل الجدل، وأن لا تتحول تلك المظاهر إلى عناوين أو لافتات لا تقود إلى نتيجة. يلاحظ علي حرب في كتابه (هكذا أقرأ ما بعد التفكيك) أن قراءتنا تاريخنا، وتراثنا، وإنجازات فلاسفتنا، تخرج من مجال النقد إلى مجال الأيديولوجيا، ولتلك القراءة، كما يرى حرب، أربعة أنماط: القراءة التبجيلية والعدائية والإسقاطية والتبسيطية. أما التبجيل فيتعامل مع النص بوصفه النموذج الذي لا يعارض ولا يعلى عليه بل يحتذى به. شيء يشبه قول (جهيزة) التي قطعت قول كل خطيب. لكن تبجيل ما لا يبجل شكل من أشكال الزهو الذي يدور حول نفسه حتى الإغماء. إنه شكل من الانحياز لا يختلف في نتائجه عن شطب وإلغاء وتغييب ما لا يمكن شطبه أو إلغاؤه أو تغييبه. وإذا كانت القراءة التبجيلية، يا صديقي، تدور حول الذات (زمانا ومكانا وإنسانا) بشكل من أشكال التضخيم والتهويل، فإن القراءة العدائية لا ترى في النص أو صاحبه أو محيطه إيجابية تذكر، بل تسعى إلى التصغير والتهوين من شأن الآخر. فهي موجهة ضد الآخر، غير أنها سرعان ما تتحول إلى جناية على الذات، لأنها لا تستطيع تقييم قدرات الآخر، والتعرف على مواطن قوته، والإفادة من إيجابياته، ولأنها تقيم دونه التحصينات والمتاريس التي تحول دون التماس أو التفاعل المثمر البناء. وكارثة أن يبقى المرء مريضا بالآخر وبفكره وإنجازاته، وأسباب تفوقه. والزوايا المضيئة التي لديه. هكذا تتحول القراءة العدائية إلى شكل من أشكال العزلة والانطواء على الذات، أو الدخول مع الآخر في صدامات تهدم ولا تبني، تدمر ولا تعمر، تتناهش ولا تتعايش. وعلينا، يا صديقي، لكي نكون منصفين مع أنفسنا أن نقرأ الآخر قراءة منصفة، كي نحدد موقعنا الصحيح على خارطة هذا العالم، ليصبح هذا الموقع نقطة انطلاق نقتحم منها آفاق المستقبل بثقة الواعي بقدراته ومواطن قوته وضعفه. أما القراءة الإسقاطية فهي تلك التي تأتي إلى النص بتصورات مسبقة جاهزة. إنها شكل من أشكال اغتصاب النص وتحميله ما لا يحتمل. أي فرض رؤية مسبقة على النص، وصبّه عنوةً في قالب يتناسب مع رغباتنا وأوهامنا، إنها قراءة شبيهة بالتفكير الرغبي. قراءة تؤكد أحكاما جاهزة، تتمنى ولا تقيِّم، وتحلم ولا تستقصي. وأما القراءة التبسيطية فهي تلك التي تختزل النص وتحشره في زاوية ضيقة. وهكذا يُقرأ المقال والحدث والكتاب من العنوان، ثم نكتفي بالعنوان ونرمي بالمتن والهامش إلى الريح. وتأسيسا على تلك القراءة الناعسة التي تلامس سطح الواقع ولا تسبر أغواره، تبنى كثير من القرارات، ويصاغ كثير من المواقف. لقد تبنينا كل تلك الأنماط النقدية مجتمعة، تبعا لما تمليه رغباتنا وظروفنا ومواقفنا المسبقة من النص. وليت الأمر اقتصر على النصوص، بل تجاوز ذلك التبجيل والعداء والإسقاط والتبسيط قراءة النصوص إلى قراءة الواقع اليومي بكل معطياته الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. هكذا يفرز التلقي الخاطئ للواقع قراءة مضللة، وقناعات مشوشة، وردود فعل انفعالية، وأخطاء قاتلة. لا أظن، يا صديقي، أن أوسكار وايلد يتحدث عنا عندما قال ساخرا: (كثير من الناس يمارسون النقد الذاتي، إنهم يفعلون ذلك، لأنهم لا يريدون نقدا من أحد). لا أظنه يتحدث عنا، فنحن لا نمارس نقدا ذاتيا، كما لا نقبل ذلك النقد من أحد. لقد جعلنا، يا صديقي، من الذات (كزمان ومكان وإنسان) محورا ونقطة ارتكاز يدور العالم حولها. أصبحنا نرى العالم من زاوية متعالية واهمة، وصدقنا ذلك. وكما أن أسوأ القراءات قراءة تائهة، فإن أسوأ النكبات، كما يقال، خداع الإنسان لنفسه وتصديقه لذلك الخداع. ولأني معجب بقصة صاحب الكِنَافَة، فسوف أعيد حكايتها مرة أخرى: فقد أطنب أحدهم في امتداح الكنافة وتعداد فوائدها، وعندما سأله أحدهم: هل ذقت الكنافة؟ قال:( لا، لم أذقها، ولكن عباءتي لامستء عباءةَ جارنا الذي ذاقها قبل عشر سنوات)! حكاية موغلة في السخرية ولكن، أليست طريقتنا في قراءة الأشياء من حولنا تشبه، إلى حد كبير، طريقة صاحب الكنافة؟!. [email protected]