DAMMAM
الخميس
34°C
weather-icon
الجمعة
icon-weather
34°C
السبت
icon-weather
37°C
الأحد
icon-weather
33°C
الاثنين
icon-weather
34°C
الثلاثاء
icon-weather
36°C

علي بدر أثناء زيارته بيروت لمتابعة أحد كتبه

هكذا أكتب رواياتي .. ولا أتوحد إلا مع الأشياء التي حدثت حقيقة

علي بدر أثناء زيارته بيروت لمتابعة أحد كتبه
علي بدر أثناء زيارته بيروت لمتابعة أحد كتبه
يسرد علي بدر المحارب القديم والشاعر، والكاتب، والمترجم، والباحث الفكري وقبل كل هذا الروائي العراقي المبدع؛ حكايته مع الرواية في حوار أجري معه في أماكن متفرقة، حارات دمشق القديمة..دار الأوبرا.. المقهى .. وفي طرقات المساء! ولما كان السرد هو جوهر علي بدرالمبدع، فضلت أن يقص لنا حكايته مع الرواية سردا.. منذ رواياته الأولى (بابا سارتر) التي شكلت انعطافا بارزا في مسار السرد في الرواية العربية الحديثة، حتى (الطريق إلى تل المطران) ووصولا إلى (صخب ونساء وكاتب مغمور) التي فازت نهاية العام الماضي بجائزة الكندور الإيطالية. فمن هو علي بدر؟ وكيف كتب الرواية؟ أسئلة يجيب عنها هذا الحديث: @ أنبهك إلى أن هذا حوار غير تقليدي يغوص في عالم ما وراء النص الروائي... أي يبحث في سيرتك الشخصية وعوالمك ودواخلك، غير المستباحة... كيف تنشأ الرواية لديك ثم تهبط إلى ضفافنا نحن القراء؟ أفضل أن تترك عوالمي الشخصية ودواخلي...وبدلا من البحث فيما وراء الرواية، لنبحث ونتحدث عن الرواية نفسها. @ أنا أرى الموضوع من زاوية أخرى ... لقد كتب الكثيرون عن رواياتك نقديا وفنيا، ولكن اليوم نريد أن نكشف ما وراء النص ... نريد معرفة عالم من أنتج الرواية.. إذا لنبدأ معك.. كيف كتبت أول نص روائي؟ طيب.. سأتحدث لك عن أول رواية كتبتها، كان ذلك في العام 1988؛ أي بعد نهاية حرب الخليج الأولى مباشرة، الحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثماني سنوات، وكنت جنديا أوان ذاك، تخرجت في الجامعة وفجأة وجدت نفسي في أتون حرب طاحنة. في البدء أردت أن أجسد إحساسي وشعوري الشخصي لمشهد الموت، مشهد الإنسان المقهور وهو يتهاوى على التراب، مشهد الوجه حين يراه الرجال فيبحثون في الصمت المرتسم على الملامح عن لغز الحياة، كما تبحث المرأة عن لغز الموت حين تقع عيناها أول مرة على مشهد طفل يولد للتو، وكنت أدرك فداحة هذا الأمر، والخسران، والمرارة التي تتركها هذه التجارب العنيفة على الإنسان، التجارب القاهرة التي يصنعها شكل من أشكال الجنون في التاريخ، عن الرجال الذين عرفتهم وقد قتلوا بالغاز، أو أصدقائي الذين جمعت أشلاءهم ودفنتهم بيدي..! بعد تسرحي من الجيش سألتني أمي مباشرة: هل فكرت في أن تعمل؟ كنت ارتبكت من سؤالها، فلم أجرب أي عمل في حياتي، فبعد أن أنهيت دراستي الجامعية في العام 1984 دخلت الجيش جنديا، ولم أكن أجيد أي عمل وقتها، ولكن في تلك اللحظة خطر في بالي أن أكتب رواية. @ لم تكن لديك أية تجربة قبلها؟ أبدا... كانت لدي تجارب في كتابة النصوص الفلسفية، وترجمة الروايات العالمية، غير أن ترجمتي لم تكن منضبطة، أي بمعنى آخر كنت أتدخل كثيرا في تقرير أحداث النص، وقد أفدت من هذه التجربة في موضعين، (وأنا أنظر اليوم إلى هذه التجارب بوصفها درسا كبيرا بالنسبة لي): الموضع الأول إن الترجمة كانت تفكيكا حقيقيا للعمل الأدبي، ومعرفة شخصياته وبنائه من الداخل... والثاني البروز المفاجئ لموهبة مذهلة وهي إني أثناء ترجمتي الرواية أبدأ بتحريف أحداث الرواية التي أترجمها، أحرف مسيرة الأبطال وأصحح أخطاء المؤلف المفترضة، فأصبحت لدي مجموعة من الكتب التي لا يمكن أن نعدها مترجمة ولا مؤلفة، ولا يمكن نشرها بأي حال من الأحوال، ولكن هذا العمل العابث والوهمي مدني بقوة منقطعة النظير قوة لا تتوقف عن السرد ودلتني على إني مختنق بأشياء كثيرة أريد أن أسردها... وهكذا اشتريت ورقا وطابعة تشبه طابعات الحرب العالمية الثانية، وحبست نفسي لمدة سنتين دون الخروج نهائيا من الغرفة، وبدأت أكتب أحداث روايتي التي عصفت بي عصفا، لقد بدأت بكتابة رواية تخص كل ما كنت أفكر فيه في تلك الفترة، وهي الحرب وتحديدا ردة فعلي إزاء الحرب، ردة فعل شاب مثقف ومتمدن تخرج في الجامعة فوجد نفسه إزاء آلة جديدة، هي الحرب، كانت التجربة عاصفة بكل معنى الكلمة، كانت أشبه بالزلزال الذي عصف بحياتي عصفا، ولم تكن لدي عناصر قوة كافية لمجابهة هذه التجربة. لقد وجدت نفسي فجأة وسط التاريخ، وسط حرب لا تنطلق من آنيتها التي تمثلها آنيتي، أو بالأحرى التي ترزح تحت ثقلها آنيتي، إنما من تاريخيتها البعيدة، التي لم أكن طرفا فيها بأي حال من الأحوال، هناك قتل يومي، وعبث حقيقي، وأنا هنا موجود بسبب التاريخ... بسبب الفرس والعرب والشعوبية وأميركا... وهي أمور أبعد ما كانت عن آنيتي التي تمثلها الأشياء المحسوسة التي كانت تضغط علي بعنف، آلام جسدي، ورغباتي وحبي وصداقاتي العظيمة مع النساء وقراءاتي للشعر وحبي للمدن والعطور والملابس والسفر، وكان علي أن أواجه الأيديولوجية التجريدية التي تصنع كل هذا الخراب، المفاهيم التجريدية مثل الاستقلال والأمة والتاريخ . وحين بدأت الكتابة، واجهتني مشكلة الفن، فلم أكن أمتلك الحرفة، أي القدرة على إنهاء رواية، أو بناء شخصياتها، أو التخلص من استطالاتها، أو إدارة أحداثها حتى النهاية، في الوقت نفسه كنت أريد كتابة أشياء كثيرة؛ لم أكن أعرف وقتها وظيفة الفن في تحرير النص ... وهكذا فلتت الأحداث مني كليا، وتجاوزت الرواية الألف صفحة، لم أترك شيئا دار في تفكيري لم أذكره، كانت نوعا من الاعتراف الذي حررني من خزي الأمة وبشاعة التاريخ، غير أن أحداث الرواية لم تنته فأصبحت عبئا ثقيلا وأصابتني بنوع من الفراغ المحزن... ماذا أفعل بها؟ الرواية لا تنتهي... وأنا لا أعرف متى أتوقف. ما خلصني من هذه الرواية هو إعلان حرب الخليج الثانية، وعودتي للخدمة العسكرية مرة أخرى، فوضعت الرواية في كيس؛ وأخرجت ملابسي العسكرية القديمة وذهبت إلى الحرب. كانت هذه الرواية قد أشعرتني بأسى غريب ومرارة لم تفارقني لمدة سنوات، وقد وضعت كل مشاعري وأحاسيسي في كيس ولم أعرف كيف اتصرف فيها. بعد نهاية الحرب تركت كتابة الرواية نهائيا، وبدأت العمل على الدراسات النقدية والثقافية، وأخذت في دراسة المناهج والكتابة عنها، البنيوية، التفكيكية، السيميولوجيا، ثم دخلت الجامعة للدراسات العليا، كان كل همي في تلك الفترة أن أصبح أستاذا جامعيا، وناقدا أكاديميا مهما. وبدأت بمراسلة كتاب غربيين مهمين مثل نعوم تشومسكي، جاك دريدا، فريدريك جيمسون، وبدأت أكتب مقالات نقدية عن الأدب والثقافة والفكر، ثم دخلت مرحلة جديدة، مرحلة المثقف العضوي، حيث كانت أفكار بندا في كتابه خيانة المثقفين هي الملهم الأول لي، ومن ثم اكتشفت غرامشي وقرأته كاملا، ثم قرأت إدوارد سعيد وسارتر وريمون آرون، والفلاسفة الجدد، ولهذا حدث انشباك شرس بيني وبين المؤسسة الأكاديمية المتحجرة، وكنت طالبا صاخبا ومتطلبا ومخاصما ومحاججا على الدوام، وكان علي أن أنفذ بين أساتذة مخربة عقولهم، وموظفين وعبيد وخدمة سلطة فاسدة، كل هذا أدى بشكل درامي إلى فصلي وطردي من الجامعة، وبالتالي دخولي حالة من الإفلاس والعطالة الدائمة، وكنت أعيش على الكفاف، وسط وضع سياسي منخور وكريه ومتأزم. من بابا سارتر إلى تل المطران أمام حيرتي الجديدة وجدت نفسي ثانية أمام طابعتي الأوبتيما القديمة، فكتبت رواية بابا سارتر، وهي سخرية مريرة من الجيل السائد في العراق الذي استمر منذ الستينات، فهو الجيل نفسه الذي كان يحكم في العراق وهو جيل الثقافة المنفية وهو جيل أساتذة الجامعة... وقد اعتمدت في هذه الرواية على معلومات نقبتها تنقيبا، وقرأت كل ما يمكن قراءته عن تلك المرحلة، وبعد عمل واصلت فيه الليل مع النهار كنت أنهيت رواية بابا سارتر.. وزعتها مستنسخة أول الأمر، ثم قدمتها إلى دار الآداب... ويؤسفني أن سهيل إدريس رفضها، وكتب لي رسالة قاسية في ذلك الوقت إذ عد الرواية إساءة متعمدة له ولعايدة مطرجي إدريس وتشويها لمواقفهما، لم أكن أقصد نقده شخصيا ولكني انتقدت منظومة الفهم في ثقافتنا، والآلية التي استقبلت بها الثقافة الغربية داخل مجتمعات متأخرة إلى حد بعيد ومنكفئة على نفسها، ومن ثم الأثر المزلزل لهذه الأفكار على هذه المجتمعات، وهو أمر لم يتناوله أحد لا في رواية ولا في كتاب، ألا يحق لي أن أنظر نظرة ناقدة لثقافة كنت ورثتها وكنت ضحية لها أيضا؟ لم يكن أحد يفهمني في ذلك الوقت، كنت أعمل في مشروع حضاري وثقافي ولا أقصد الشهرة أو التشويه أو السخرية، وكنت وصلت إلى حد الجوع والتشرد ولم أستسلم لا لسلطة ولا لمؤسسة ولم أبع نفسي لأحد، كنت حرا ولكن في الوقت نفسه شعرت بإحباط كبير، وأسى ويأس لا حد له، لقد شعرت بغياب أي أفق للثقافة العربية لتجاوز كبوتها، والعودة إلى مراجعة نفسها، في الوقت الذي كنت أعتقد فيه أن المثقف يطالب بالتغيير عبر النقد الشامل، والسياسي هو الذي يريد تكريس الوضع القائم، كنت أجد المثقفين هم أيضا يناضلون من أجل تكريس الوضع القائم، وهكذا كنت مرتبكا ويائسا ومتهدما، وقبل أن أرسل الرواية إلى دار رياض الريس كنت وقعت عقداً لتمثيل فيلم وثائقي عن الآثار الليبية، وقبل رحيلي من بغداد كنت أرسلت الرواية إلى رياض الريس وبعد حذف بسيط أو تعديل في الفقرات الخاصة ببعض الشخصيات الحية تم نشرها كاملة، دون أن أعلم بنشرها، حيث كنت ذلك الوقت في الصحراء الليبية أبحث عن لغز جندي ايرلندي مقتول في الحرب العالمية الأولى اسمه جون بريل، كانت تجربة الفيلم مثيرة، وكنت تعرضت للموت أكثر من مرة، حيث ركبنا طائرة شينوك قديمة وكادت تسقط بنا فوق آثار مدينة قورينا شحات، وعبرنا إلى جزيرة بقوارب مطاطية وضربتنا عاصفة وسط البحر وشارفنا على الهلاك، وانفجر لغم قريبا مني في موقع للحرب العالمية الثانية في بير موسى. وسط كل هذه المغامرات كنت أقود مغامرة بعيدة عن الفيلم تماما، وهي البحث عن لغز جندي مثقف ورسام قتل في الحرب العالمية الأولى، وتابعت مسيرته من أسره في منطقة البردي، حتى مقتله في معركة العلمين ودفنه في مقبرة مرسى مطروح، وعن هذه التجربة كتبت روايتي (الخطوة البطيئة للقوافل) التي آمل نشرها هذا العام. تل المطران ثانية اختلفت مع إدارة الفيلم، وتفاقمت المشاكل بيني وبينهم، وهربت مرة أخرى من ليبيا إلى الأردن كي أدخل بغداد ثانية، وبالمصادفة المحضة عرفت أن روايتي بابا سارتر قد نشرت قبل أكثر من ستة أشهر وأنها منعت أيضا، دون أن أتمكن من رؤيتها، فآثرت البقاء في الأردن ذلك الوقت مع أن وضعي كان صعبا جدا، وبدأت كتابة مقالات للصحف والمجلات وتجريب كتابة سيناريوهات عديدة، وإن كنت منعزلا تقريبا إلا أن وضعي العام قد تغير بشكل شديد، فقد حققت اعترافا أدبيا من نوع ما، إذ أصبح لدي جمهور، ورسائل تصلني مع قراء عديدين، وصداقات كبيرة، واهتمامات، ومساعدات لا حد لها، ومن أطراف متعددة. لقد وجدت وضعي قد تغير فجأة، غير أن الخطأ الذي ارتكبته هو دخولي للعراق مرة أخرى، وهكذا وجدت نفسي في متاهة بورخيسية مرة أخرى، حيث حكمت علي السلطات حكما بالسجن بسبب تخلفي عن خدمة احتياط آخر في الجيش، وأثناء تهربي ومحاولة الخروج مرة أخرى من العراق كنت عدت إلى روايتي الأولى التي وضعتها في الكيس قبل حرب الخليج الثانية، حيث أصبحت أكثر دربة وحرفة، غير أن المعضلة التي واجهتها هي أني لم أرقم صفحاتها، واستغرق قراءتها وترقيمها شهرا كاملا، ثم حذفت منها أكثر من ثلاثة أرباعها وأضفت عليها وعدلتها وأرسلتها إلى دار رياض الريس. فقد اعتمدت مباشرة ولكنها تأخرت أكثر من ثلاثة أعوام، حتى صدرت العام الماضي تحت عنوان (الطريق إلى تل المطران). وفي هذه الفترة القصيرة والمضغوطة كنت قمت بعملين اسثنائيين هما عثوري على رسائل ماسنيون التي كان أرسلها إلي الأب أنستاز ماري الكرملي في العام 1908، وهو أمر كنت مهتما به اهتماما شديدا. فالعلاقة مع الغرب، ومفهوم المثاقفة هو ما شغلني على الدوام، والكتاب مثير أيضا وإشكالي. وقد اتصلت بشخصيات فرنسية عديدة من أجل نشره في باريس، لم يكن يعرف عن أمر هذه الرسائل أحد ولا حتى عائلته، وبسبب بعض الفقرات التي وردت في رسائل ماسنيون التي تفضح علاقاته مع دوائر كولنيالية معينة وجدت تلكؤا في نشره، وهكذا نشرته باللغة العربية بعد أن ترجمت الرسائل وحققتها وكتبت له مقدمة طويلة، فسرت بها الدور الخلاق والإشكالي لماسنيون في مؤسسة الاستشراق، والعمل الآخر جمعت ما يمكن جمعه من معلومات عن الثقافة العراقية في القرن التاسع عشر للشروع في كتابة سلسلة روايات تتم من خلالها إعادة كتابة تاريخ الثقافة العراقية سردا. في هذه الأثناء تصاعدت لهجة التهديد الأميركية باحتلال العراق، فكانت فرصة لي بكتابة رواية أتوقع من خلالها ما سيحدث في العراق مستقبلا، وبالفعل بدأت بكتابة روايتي الخامسة (الوليمة العارية) التي نشرت حديثاً ومن خلال أحداث حياتية واجتماعية لمثقفين عراقيين مثل الزهاوي، والرصافي، مرا بتجربة مكافئة لتجربتي في العيش بين جحيم الاستبداد وجحيم الاحتلال، وشرعت في كتابة أحداث الرواية من محطة حيدر باشا في الجزء الآسيوي من مدينة اسطنبول، لتفسير الشرط اللازم لنهاية الدولة الإمبراطورية الدينية، وبداية عصر الحداثة الغربية مع دخول الإنجليز إلى بغداد، وتقرير وقائع ما بعد الاحتلال.. النهب والسلب والفوضى، والغوغاء والارتباك، والجيش المهزوم. لقد صنعت إليغوريا رمزية توقعت فيها هزيمة الجيش العراقي والنهب والسلب في بغداد، والإخفاقات ونهاية الدولة القومية، وحرق المباني، وصراع العلمانيين ورجال الدين و... والأهم علاقة التخطيط الحضري والمدني في تكنولوجيا السلطة... ومن ثم أرسلتها إلى المركز الثقافي العربي طامحا لنشرها قبل سقوط بغداد، لتكون أشبه بالتحليل الذي يسبق الأحداث، طبعا لو كنا في ثقافة أخرى غير الثقافة العربية لحققت صدى مهما، غير أن الإجابة جاءتني سلبية جدا، حيث اعتذرت الدار لأنها اعتبرت الرواية إساءة للمجتمع العراقي، وفي ذلك الوقت لا أحد من الأشقاء العرب يريد أن يسمع عن العراق سوى المقاومة والانتصار، ومع أن تحليلي كان واضحا ومشابها لما حدث في بداية القرن، لا أحد يدافع عن وطن ينتهك كرامات أبنائه على الإطلاق، شعرت في تلك الفترة بإحباط حقيقي ويأس كامل، كانت مخطوطة روايتي في يدي، وقد تفاجأ الناس والمثقفون والنخب السياسية بما حدث في بغداد، مع أني حللت كل هذا قبل حدوثه، وأنا أعتقد إلى اليوم، أن كل خسارتنا السياسية ذلك لأننا أمة لا تقرأ- كما قالها موشي دايان عنا حقيقة وواقعا- وكما فسر لنا هو خسارتنا في حرب حزيران. وبعد ذلك أرسل السيد مدير المركز الثقافي العربي الرواية إلى دار الجمل في كولونيا، لأنه لم يكن قادرا على نشرها في داره، وبالفعل وصلتني رسالة من خالد المعالي يثني فيها على الرواية ويوافق على طبعها، وأخيرا صدرت وإن تأخرت نسبيا بطبيعة الأمر. @وماذا عن روايتك (صخب ونساء وكاتب مغمور)، التي أصدرتها المؤسسة العربية للدراسات والنشر؟ نعم ... في هذه الفترة الممتدة من خروجي من العراق بعد الاحتلال إلى اليوم، كنت انشغلت في مشروع كتابة رحلات مولتها مؤسسة ثقافية عالمية، وبمساعدة صديقتي الأثيرتين جينا كساب وليليان حايك، (لبنانيتان تعيشان في أميركا) وهكذا كنت أنجزت رحلات مغامرة بحق في مجاهل أفريقيا وآسيا، وتعرفت على عوالم خفية تصنعها مافيات تجارية وسياسية واستخبارية، شبكات تهريب، تجارة سوداء، رقيق أبيض، وصحافة صفراء، وعشت عوالم المهربين والهاربين من العالم الثالث إلى أوروبا، عالم المهاجرين والمنفيين والفارين من بلدانهم إلى جنائن متوهمة، هذه العوالم لا سيما عوالم العراقيين الذين يريدون الهرب بأية صورة ذكرتني بنفسي أيام محاولاتي للهرب من العراق وبأي ثمن، وفكرت كثيرا في أصدقائي الذين غدر بهم، وبالحياة الجافة المتعفنة في ظل الحصار، وحياة المثقفين في بغداد، فبدأت بكتابة جزء من سيرتي الشخصية في رواية صخب ونساء وكاتب مغمور، وهي تجربة كتابية خاصة، فمن جهة كنت أفكر بأفكار بندكت أندرسن عن الجماعات التخيلية، التفكير في الحدود الميركانتيلية ووهم تخطيطها، واختراع مفهوم الأمة، وحبس الناس في بقعة من الأرض وفرض القوانين عليهم, ومن جهة أخرى نزوع الناس إلى المنفى للخلاص من جحيم الدولة القومية. رواية القصور @ وعن شتاء العائلة... الرواية الوحيدة التي نشرتها في العراق على ما أظن، وكنت ذكرتها في صخب ونساء وكاتب مغمور، وذكرت محاولة نشرك لها... ما هذه الرواية، وما تجربتها؟ نعم هذه الرواية هي الرواية الوحيدة التي نشرتها في بغداد، فبعد زواجي كنا انتقلنا إلى منطقة راقية جدا، وكانت إحدى قريبات زوجتي تمتلك قصرا فخما جدا يطل على ضفاف نهر دجلة، وهذا البيت يعود أصلا للطبقة الأرستقراطية العراقية خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، والتي تهاوت كليا تقريبا بعد الثورة، كنا انتقلنا إلى هذا القصر دون أن يكون لنا أي شيء نملكه تقريبا؛ باستثناء كتبنا وحقائب ملابسنا، وكانت مفاجئتي على أشدها، فمن جهة كنت اكتشفت أثاثا راقيا قد اندثر زمنه، لكنه بقي محافظا على لونه وثرائه، أثاث الماهغوني، البانيوهات مذهبة من بداية القرن العشرين، اسطوانات لكبار موسيقيي العالم، تحف، لوحات، سجاد, ومن جهة أخرى، هذه الممرات والدهاليز المتعددة التي تذكر بمتاهات الروايات القروسطية، كانت الفخامة الإنجليزية تهيمن على المكان، ولكننا لم نكن نملك المال الكافي لإدارة هذا العالم الغريب كليا عن الحياة التي نحياها، وللخلاص من الضجر بدأت كتابة روايات قصيرة عن الأرستقراطية العراقية، فبدأت بكتابة رواية (شتاء العائلة) التي تجسد تاريخ الطبقة الأرستقراطية العراقية في تلك الفترة. @ إذا استلهمت رواية شتاء العائلة من وحي المكان الذي عشت فيه؟ أجل.. من وحي القصر الذي كنت أعيش فيه، ومن وحي تاريخ ساكنيه الشخصي والحياتي، ومن أثاثهم ومن صورهم ومن دفاتر مذكراتهم، لم أستطع نشرها في تلك الفترة. وبالصدفة سمعت بجائزة للرواية في المغرب، تعطي ألف دولار للفائز من الكتاب الناشئين... وأرسلت الرواية وفيما بعد اتضح أن المطلوب، كتابة رواية باللغة الفرنسية وليس باللغة العربية... لكن بعد سنوات فازت الرواية نفسها بجائزة في دولة الإمارات، وحصلت تقريبا على نفس المبلغ! وهذا المبلغ هو الذي أعاننا على السفر إلى خارج العراق، أما إصدارها فقد كان أثناء وجودي في بغداد... أي بعد إصدار بابا سارتر، في الفترة التي حكم علي فيها بالسجن بسبب الخدمة العسكرية، وأنا أحب هذه الرواية جدا، فهي رواية حب بامتياز من الناحية الإطارية، وهي رواية رمزية صورت فيها انهيار الطبقة الأرستقراطية وتهدمها بعد الثورة، كما أني صنعت منها سجلا لممتلكات الأرستقراطية العراقية، سجل كامل بما تحويه القصور من ممتلكات، وهي رواية صنعة أيضا، رواية فن ... أو قطعة فنية متماسكة ومنحوتة أشبه بالمنحوتات التي وجدتها في هذا القصر الملغز والغريب.
علي بدر يتحدث للزميل علي المدلوح
أخبار متعلقة