في الجلسة الختامية لموسم منتدى عكاظ الثقافي بجمعية الثقافة والفنون بالطائف أقيم مساء الاثنين الماضي قراءة نقدية قدمها الشاعر والإعلامي سعد الحامدي للديوان الأول للشاعر حمدان الحارثي والموسوم بـ (يحاور أنثاه) وقد بدأت الجلسة بقراءات متنوعة من قبل صاحب الديوان لبعض نصوصه ومنها :
أعيذُكِ أن تحترقي في دفاتر عمري..
أعيذُكِ أن يبرحَ الشعراءُ القصائدَ..
حتّى تعود الصواري ..تؤوب الموانيءُ في موكبٍ للغروب
أعيذُكِ أن ينثني الصبحُ في مفرقي ..
إلى أن تكونَ الضياءُ يدين
وحتى تكونُ الرهاناتُ مسندةً للتي تتلّهى ..
بتدوينها في بياض الجبين
وخالقِ عينيك...
ثم قرأ نص (مؤثثٌ بالحزن!!)
واختتم قراءته بنص (يحاور أنثاه) وهو عنوان الديوان حيث قرأ منه:
(عيون المهـــا بين الرصافةِ والجسرِِ)
النشيدُ الذي سامرتءهُ النوايا ..
تراجعَ عن كلّ أحلامِهِ ،وبنى كوخَهُ من هشيم
والطريـــــقُ الترابيُ في قريتي ..
يتهجّى ثمَرا لاحَ منــــذُ الصبــــاحِ..
وجاريةُ اللـــــيلِ قد أنجبت توأمين...
لعصرٍ ..عقــــيم !
وبدأ سعد الحامدي قراءته النقدية بقوله: أبارك للشاعر باكورة إصداره الشعري والذي أحيط بقدر وفير من الرعاية من قبل صاحبه الشاعر حمدان الحارثي وأثني على جرأته في الطبع وطرحه الديوان بين يدي القارئ في هذه المرحلة الفنية للشاعر الذي ترك للقراء تناول الديوان من زوياه المختلفة.
ثم يقول الحامدي: عند النظر لعنوان الديوان أولا نجده (يحاور أنثاه)، فلو قال يحدّث أنثاه، أو يسلي أنثاه، أو يناجي أنثاه لكان أجدى وأنفع، فإنّ هذه الأمور تصدر من الواحد ولا يتطلّب الأمر حديثا بين اثنين، وأنثاه التي عنّى لم تحاوره إلاّ إنء كان يقصد بذلك كونها الباعث والدافع لكتابة هذه النصوص، وهو معنى بعيد إن كان قد أراده الشاعر.
وأضاف الحامدي قائلاً: من الملاحظات التي أخذتني وأنا أقرأ النصوص، تلك اللغة الشعرية التي كتبت بها، فهو يكتب نصوصا ذات نَفَسٍ شعريٍ طويل، ويختار التفعيلة لكتابتها، فنجده يطيل العبارة لا من أجل الوصول للمعنى بقدر استمرارية الجرس الموسيقي والقافية، وهو في الواقع مخير بين المعنى والمبنى.
ومن الملاحظ على هذه المجموعة محاولة الشاعر استنطاق التراث وربطه بما يريد أن يقوله وكأنه ينيب هذه الدلالات للتحدث عنه أو لتبيان ما يريد قوله لنا، ومحاولة طرق معانٍ جديدة، وهو أمر اجتهد فيه الشاعر كثيرا، وأكثر منه حتى أضّر بنصوصه من حيث لا يعلم وهو يحاول جاهدا أن يأتي بجديد، فكان التكلف والصنعة خياره الأقل رتبة.
وبالنسبة لعنوان القصيدة، فهو جزء عضوي منها، جزء من سياقها بحيث يخرج العنوان إمّا من رحم النص أو مكمل له، من ذلك مثلا نص (أعيذك أن تحرقي في دفاتر عمري) فهو مطلع من القصيدة نفسها التي حوت بعد ذلك أربعة مقاطع تبدأ بمفردة أعيذك. فالعنوان في الواقع مطلع خامس فصله الشاعر من النص ليجعله عنوانا، ص 11، وهكذا بقية النصوص.
ويتابع قائلاً: لقد شغل الحارثي كثيرا بموضوع التراث، وهو أمر محمود ، يضمّن به قصائده، بل وحتى يعنون به بعض نصوصه ( أيكم يكفل حزني) ص 13، فلقد استنطق المفردة الدينية، من خلال العنوان. ولكن هذا التضمين تكتشف في نهاية النص أنه لا علاقة له بتوظيف المفردة الدينية. ( فليمنح الله مريم طفلا ص 32 ) و (كناكثة غزلها) ص40 (هذا قميصي في إشارة إلى قميص يوسف عليه السلام ص 58 ) (إرم من عماد) ص 58 (سدرة المنتهى ص63) و (أعدي لهم ما استطعتِ) ص 44 (زبر الحديد) ص64 وفي نص واحد يورد : فرعون عرش مصر، وحصحص التوق، العزيز، ادخلوا آمنين، وصار واضعا نصب عينيه أن يضمّن المعنى بشيء من التراث حتى لو كان في غير محله، فلا علاقة البتة بين موسى وفرعون وامرأة العزيز وبقية القصة في السياق القرآني .
وقال: لن أقفَ على تقنيات قصيدة التفعيلة، فالشاعر يجيدها وإنء كانت من السهل الممتنع، فإنّ التفعيلة عصيةٌ على من لا يعطيها حقها من الإتقان، ففي نص احتراق لواء الشعراء، تقوم التفعيلة بشكل أفضل لو قال الشاعر واكتبيني بدلا من اكتبيني، وهي أمور سيتجاوزها الشاعر بمرور الأيام .ص 51
من جهة أخرى فإن مما يحسب لحمدان الحارثي إتقانه الغنائية التي تجعلني أميزها بكل وضوح لدى الشعراء القرويين، أولئك الذين كانت القرية هي ملاذهم الأخير، وهي المعين الذي ينهلون منه وهي الملهم الشعري لهم.
وكأي شاعر شاب مقبل على الحياة، نلمس الرومانسية المفرطة في نصوص المجموعة، والحياة الحالمة الهادئة، ومحاولة قراءة المستقبل وما ستنبئ عنه الأيام.
لكنه قال لقد حصر الشاعر نفسه في عوالم اختطها له وضعه وتجربته الحياتية، فالرومانسية المفرطة، هي جزء من تكوينه الشعري، ولو كتبت على غلاف الديوان إن هذه النصوص كتبت في القرن الثامن عشر أو في القرن الحادي والعشرين فلا فرق، لأن الشاعر لم يهتم بالزمان ولا بالمكان؛ قدر اهتمامه ببوحه الشعري المتواصل الذي من قراءته تجد أنه كتبه في مرحلة عمرية بسيطة وفي فترات زمنية متقاربة، فالنصوص متشابهة، والأدوات نفسها، والنّفس الشعري واحد، والمفردة الشعرية والبناء الشعري، وكذلك الطرح والمعنى، والتجربة الشعرية البسيطة في المجموعة واحدة كلها متشابهة حتى التطابق في بعض النصوص، بالرغم من ذلك الكم الهائل الذي ملأ به الورق من النصوص، وكأنه يحاول أن يقنع نفسه وتلك التي يحاورها بشيء ما، ولكن البلاغة والفصاحة أيضا تكمن في الإيجاز لا في الإطناب، وإنّ الاختصار لغة العصر لا في الشعر فقط؛ ولكن في كل مناحي الحياة.
ويستغرب الحامدي تأخر ذكر محاورة الأنثى حيث يقول: إن أغرب ما في المجموعة أن الشاعر لم يحاور أنثاه بالفعل إلاّ ابتداء من نص أغنية السراب. حيث يورد في النص ص 97 وقد قاربت المجموعة على الانتهاء شيئا من الوصف الجميل والغنائية الأخاذة وقد وفق كثيرا حين همس في أذّنها حين قال: عرسان يوم ولِدتُ
يوم لقيتها تنساب في ألقي وترسم في ثقوب الليل أشيائي فنبتكر المساء
وأجمل ما في هذا النص أنّ الشاعر أقلع عن عادته تلك التي يستقرئ فيها التراث ويستنطقه، فلما غفل عن ذلك جاء النص متماسكا وجميلا، رغم طوله الملاحظ، وغنائيته المفرطة! وهكذا نص وردة الله، وكأن المجموعة الشعرية الحقيقية قد بدأت للتو من هذا النص وسابقهِ.
ويكمل الحامدي متحدثاً عن نص (يحاور أنثاه) الذي أعطى للديوان اسمَا، حيث يقول: يمثل هذا النص تجربة الشاعر أيما تمثيل، فهو نص طويل، يحاول أن يلملم الشاعر أطرافه، ممتلئ بالتداعيات التي لا يربطها خيط واحد، والنص ككل نصوصه، ممتلئ هو أيضا، بالوقوف على دلالات التراث الدينية والتاريخية والأدبية، والنص تكاد تنطفئ جذوته الشعرية حين يقول مثلا (وقد قيل سبحان ربي تُصدِّقَ
هذا المساء على غانية !!
بعد ذلك جاء دور مداخلات الجمهور الذي أضاف للديوان بعداً تضادياً آخر حول ما قاله الناقد من حيث اعتبر الدكتور فوزي خضر (أن اختيار العنوان وتقسيم الديوان لعدة قصائد وتوظيف التراث تهدي إلى أن الشعراء نوعان: أحدهم شاعر يقدم عالماً شعرياً يصعب دخوله في حال انعدمت الأدوات المعينة على ذلك. وهذا ينطبق على تجربة الحارثي, الذي يمتاز عالمه بالواقعية وكثافة الصور السريالية التي قد تحدث اللبس عند المتلقي).
الدكتور عاطف بهجات رأى أن تجربة الحارثي مختلفة وتحتاج لقراءة مرهقة, وهذا يجعل اختلافه مع قراءة الحامدي أمراً حتمياً, مشيراً إلى أن الحارثي في توظيفه للتراث يشتغل على مستويين تقوم عليهما القصة وينتج عنهما في كل مرة معنىً جديداً وصورة مختلفة.
القاص طلق المرزوقي طرح تساؤلين تناولا كون الناقد في تناوله قد اعتمد رأياً حدياً معيارياً! وآخر عن أهمية أن يقدم النص الأدبي معنىً جديداً للنص الديني بدل أن يقدم المعنى الديني لذات النص.
حسن الحارثي أضاف سؤالاً عن الوقت المناسب للنشر, وما شروطه وكيف يمكن التحكم به, ومن يملك صلاحية ذلك؟
وجاءت هذه التساؤلات قبل أن يختم الدكتور محمد القاسم بالتأكيد على أن الأنثى حاضرة في كل قصيدة من قصائد الشاعر, روحاً ومحاورة.
الحامدي علق على المداخلات بقوله: إنه يعتبر قراءته قراءة نقدية أولى, وبتأكيده على أنه لم ينف شاعرية الشاعر, ومكرراً أنه عبر عن رأيه النقدي عن كيفية كتابة قصيدة التفعيلة ورؤيته للطريقة المثلى لتوظيف التراث.
الشاعر حمدان الحارثي ختم الأمسية بشكره لجهد الناقد وقال إن التجربة الأولى لا تخرج نصا عملاقا ولن أكون متنبئ عصري حتى أخلو من تقصير في المعنى أو المبنى.
كما أشاد بما قدمه المداخلون في سبر أعماق الديوان وقال: إنني أؤمن بأن النص يكتمل في وعي المتلقي, وأن النص الذي يسلم نفسه من أول قراءة هو نص قاصر لمبدع قاصر.