بحسب منظمة الصحة العالمية فان الصحة هي حالة من اكتمال العافية الجسدية والنفسية والاجتماعية للفرد, وليست فقط غياب المرض او الاعاقة, وهذا الفهم الشامل للصحة الجسدية والنفسية على اساس انهما مكـملان لبعضهـما تـعززه نـتائج البـحث العلـمي, فهـي تـكشف باسـتمرار عن شـدة الارتـباط بـين مـا هو جسـدي PHYSICAL ومـا هـو نفـسي psychological وكيـف يؤثـر كل واحد منها في الآخر.
هذا ما اوضحه الدكتور رياض الونين استشاري اول الطب النفسي بمستشفى الصحة النفسية بالدمام في مقال بعث به للصفحة يوضح فيه انه على صعيد دراسة اسباب الامراض التي تصيب الانسان فان هذه الأبحاث تقدم اثباتات على الدور المهم للعوامل العضوية في احدث المرض النفسي psychiatric illness وتوضح لنا كيف ان بعض الامراض الجسدية يمكن ان تؤدي بذاتها الى ظهور اضطرابات نفسية لم يكن المريض يعاني منها قبل ظهور المرض الجسدي.
والحقيقة ان التقسيم الدارج للأمراض التي تصيب الانسان الى امراض عضوية organic وامراض نفسية, هو تقسيم مصطنع الى حد بعيد, ظهر في وقت لم نكن نعرف فيه الا القليل عن اسباب حدوث المرض النفسي, لكن نتائج البحث العلمي النشط في العقود الأربعة الاخيرة تدل على ان منشأ الغالبية من الامراض النفسية الشائعة (كالفصام والاكتئاب واضطراب المزاج ثنائي القطب واضطرابات الشيخوخة) هو منشأ عضوي في الاساس والدليل على ذلك: الاختلافات في تركيب الدماغ التي يكثر وجودها بين هؤلاء المرضى عن غير المرضى (بحسب نتائج الأشعة المقطعية والمغناطيسية وكذلك الاختلالات الوظيفية في الدماغ (نقص النواقل العصبية, اضطراب الهرمونات, كهربية الدماغ, قياسات النشاط الوظيفي لبعض اجزاء المخ باستخدام الأشعة الوظيفية.. وغيرها), كذلك فان جميع الامراض السابق ذكرها هي امراض وراثية, وبالتالي فإن مريض الفصام او الاكتئاب يورث القابلية للمرض لأبنائه, بنسب متفاوته.
ويبقى ان نقول ان العوامل السيكولوجية والاجتماعية تلعب دورا في مراحل معينة من المرض, وقد تزداد شدة المرض عندما لا يتوافر الدعم النفسي والأسري الكافي للمريض لكن دور هذه العوامل بالتأكيد ليس الدور الأكبر في نشوء المرض.
من جهة اخرى فإن عددا من الامراض الجسدية الشائعة تؤدي بشكل مباشر او غير مباشر الى اضطرابات نفسية, وعلى سبيل المثال فإن القصور في افراز هرمون الغدة الدرقية يؤدي الى عدد من الأعراض الجسمانية لكنه ايضا يؤثر في عمل الدماغ مما ينتج عنه امراض نفسية شائعة اهمها الاكتئاب, الأوهام الذهانية والهلوسة, تغيرات الشخصية المفاجئة, وغيرها, ايضا فإن نقصا حادا في احد الفيتامينات هو فيتامين ب نيكوتناميد يؤدي الى اضطرابات نفسية متعددة اهمها الهذيان المؤقت, التوتر واضطرابات النوم, الاكتئاب, اعراض ذهانية, او حتى الخرف (اضطراب الذاكرة الشديد) في حال الاهمال في علاجه, وقائمة الأمثلة طويلة جدا.
ايضا يؤكد البحث العلمي ان العوامل النفسية وسمات الشخصية يؤثر في علاج العديد من الأمراض الجسدية كالسكري وضغط الدم وامراض القلب والحساسية والأورام الخبيثة, اذ كلما خفت حدة القلق عند المريض وازدادت ثقته بقدرته على تجاوز المشكلة, ازدادت تبعا لذلك فرص التعافي من هذه الامراض وقلت احتمالات الانتكاسة.
وفي حال وجود اعراض قلق او اكتئاب لدى مريض السكري مثلا فإن علاجها باستخدام الأدوية النفسية وجلسات العلاج يؤدي بالنتيجة الى تحسن مستوى سكر الدم لدى المريض وتقليل التذبذب فيه.
لذا تستحدث عدد من الجامعات والمشافي في الدول المتقدمة اقساما لما يعرف بطب الذهن والجسد يستخدم فيها عدد من الوسائل النفسية كالاسترخاء والإرجاع الحيوي والعلاج السلوكي والتدعيمي والعلاج النفسي الدوئي, وكلها تهدف الى تحسين قدرة المريض على التكيف مع الضغوط, ورفع حالته المعنوية, مما يزيد بالتالي من نسبة الشفاء من عدد من الامراض.
خلاصة القول ان الامراض الجسدية والنفسية تشترك في ان لكليها منشأ عضويا, وفي كلا النوعين من الامراض تلعب العوامل النفسية والاجتماعية دورا في تطور المرض سلبا او ايجابا, وهو ما نؤمل ان يصحح الاعتقادات الخاطئة عن المرض النفسي واسبابه, ويشجع بالتالي على النظر للمريض النفسي على انه مرض مثله مثل اي مرض آخر يمكن علاجه ويمكن الوقاية منه.
وكما ان علاج العديد من الأمراض الجسدية يعتمد على التشخيص المبكر وعلى مبادرة المريض الى العلاج, والالتزام بإرشادات الطبيب فإن علاج المرض النفسي يخضع كذلك لنفس المبدأ. كما ان للصحة النفسية والجسدية ذات الأهمية في اسعاد الفرد والمجتمع, والنظر الى احدهما واهمال الآخر يحرم صاحبه من فرصة الوصول لهذه السعادة.