حتى بعد أن حصلت على عمل في إحدى المنظمات غير الحكومية الناشطة في محاربة الفقر لم تتخل عفاف (21 عاما) عن ممارسة التسول فمع حلول الرابعة عصرا تغادر المنزل إلى احد الأحياء الراقية المزدحمة بروائح المجتمعات المخملية بوسط العاصمة صنعاء لتمارس التسول بدوام كامل .
تتجول عفاف برشاقة بين المحال والسيارات وفي بر يهات تتصاعد غمزات وضحكات وثمة من يدس في يدها مبلغا جيدا اعتادت أن تحصل عليه في كل مرة يمر فيها الرجل من هذا الشارع.
تمارس عفاف كغيرها نمطا جديدا في التسول أفرزته ظروف الفقر فذات يوم وجدت نفسها وحيدة بعدما التهم المرض عائلهم الوحيد..لكنها أدمنت جمع المال بهذه الطريقة تماما كما الحال مع العشرات من الشباب والشابات الذين يمارسون التسول بربطات عنق وفي أجواء لا تخلو من أناقة وتمثيل وفي أحيان إغراء وجريمة.
يقول حمدي عبدالناصر باحث اجتماعي: العديد من الشباب لا يتحرجون من ممارسة التسول بإغماض نصف عين وربطة عنق (التسول غير الصريح).
ويقول عبدالناصر: الحاجة الاقتصادية دعت بعض هؤلاء إلى التسول والبعض تراكمت لديه مخاوف كثيرة تحول بفعلها إلى متسول بدرجة مدير عام.. ولا تستغرب من شاب أنيق بنظارة وفانيلة وبنطال من احدث صراعات الموضة يوزع ابتساماته على العابرين أمام بوابة مطعم أو كفتيريا .
وثمة أيضا تمثيل وإغراء وجرائم تمارسها متسولات .والتداخل الغريب بين الفقر ونزق البحث عن المتعة المجانية طور ظاهرة تسول الفتيات إلى علاقة عرض وطلب ..هؤلاء يعطون الشابة المتسولة الكثير مقابل إشباع هوس المتعة الخاطفة والقلقة.
متسولون بالجملة
تقدر الدراسات عدد المتسولين في اليمن بحوالي 1.2 مليون نسمة فيما يؤكد باحثون اجتماعيون أن أعدادهم تفوق المليونين ويشيرون إلى ارتفاع معدلات التسول بصورة مطردة كنتاج للفقر والبطالة.
وفي قراءة للمشهد العام للتسول في اليمن تبدو الصورة متشعبة التفاصيل حيث يمارس التسول في هذا البلد فرديا وأسريا وفي ظروف مختلفة فيما تؤكد بعض الدراسات الحكومية أن التسول لم يتحول بعد إلى انحراف منظم .
يقول الباحث عبدالناصر "هناك صنفان من المتسولين، الأول المتسولون بسبب الفقر الدائم وعدم القدرة على العمل وغياب مصادر الدخل الكافية والثاني هم المتسولون الموسميون وهؤلاء من أفراد الطبقة الوسطى الذين تدهورت أوضاعهم المالية خلال السنوات الأخيرة بسبب انخفاض معدلات الدخل وقيمة العملة المحلية وتفاقم ظاهرة البطالة وارتفاع نسبة الإعالة الاقتصادية.
أما الفئة الثانية فيمثلون المشتغلين في مهن بسيطة وهامشية والعمال غير المهرة الناشطين بالأجر اليومي ويضاف إليهم صغار الموظفين والعمال والعاملين في القطاع غير الرسمي وكبار السن والأطفال وربات البيوت ..ومعظمهم يتسولون موسميا لسداد أعباء مالية طارئة كإيجار المنزل أو لـــسداد فاتورة كهرباء أو ماء أو هاتف أو لمعالجة مريض ".
وفي الوقت الذي توجد نسبة كبيرة من المتسولين تحت ضغط الفقر فهناك نسبة ربما توازيها ممن يتسولون موسميا وهي الظاهرة التي تزايدت في السنوات الأخيرة بصورة كبيرة. وثمة شكل آخر لدى هذه الشريحة من المتسولين وهن الفتيات والشابات المنقبات اللاتي ينتشرن في الأسواق العامة وبخاصة في أسواق بيع القات , ويعتمدن في نشاطهن على الضحك وأساليب الإغراء والكلمات الجنسية المثيرة التي تدفع بالمتسوقين إلى إعطائهن مبالغ معينة بسيطة مقابل تبادل مفردات إباحية أو قيامهن بحركات إثارة .
ويقول محمد على ناصر ( صاحب مطعم في أحد الأحياء الراقية بالعاصمة صنعاء) ان هناك فتيات من المتسولات يحضرن إلى المنطقة حيث توجد المطاعم الراقية لممارسة التسول عن طريق الإثارة .. وتكون الفتيات منقبات ذات عيون جذابة وقوام جميل وتحصل على الصدقات من المرتادين للمطاعم وأصحاب السيارات الفارهة كما يحصلن على وجبات طعام مجانية.
وهناك متسولون محترفون من الرجال والشباب وكبار السن الذين تتعدد أساليب التسول لديهم
وقد تجد من بين هؤلاء شباباً بملابس أنيقة يمنيين وعربا بعضهم من مناطق الأرياف يأتي مهرولاً نحوك ويصافحك ويطلب منك بأدب مبلغاً محدداً مسبقاً شاكياً لك وضعه ومأزقه .
وهذا الشكل تمارسه أيضاً فتيات في سن الشباب يمنيات وعرب غالباً فلسطينيات وعراقيات ومن جنسيات أفريقية وهن الأكثر احترافاً وتراءً من غيرهن ربما لاعتمادهن على الإقناع وإحراج الناس بطلباتهن المتواضعة .
أشكال متعددة
يؤكد الباحث الاجتماعي راشد عبدالغني من مركز الدراسات الاجتماعية وبحوث العمل إن نسبة من المتسولين يمارسون التسول بناء على طلب رب الأسرة أو الزوج ومعظم هؤلاء من النساء اللاتي يجبرهن أزواجهن أو أولياء أمورهن على ممارسة التسول لتلبية احتياجات الأسرة وفي أحيان لتلبية الاحتياجات الشخصية لرب الأسرة ومتعه اليومية مثل التعاطي اليومي للقات وشراب المسكرات.
أسباب الظاهرة
يذهب الدكتور فؤاد الصلاحي أستاذ علم الاجتماع بجامعة صنعاء في تفسيره لأسباب انتشار الظاهرة إلى التأكيد على أن التسول ليس بالأمر الهيّن حتى نطلق عليه مشكلة أو حدثاً عارضاً أو اعتيادياً يمكن تلافيه ومعالجته بسهولة بل أصبح ظاهرة تنتشر في اليمن كما ينتشر المرض المعدي في جسم الإنسان.
"والتزايد في انتشار الظاهرة يعود إلى أسباب اجتماعية واقتصادية، بل وسياسية ومنها الظروف الاقتصادية المرتبطة بالتحولات وتدني دخل الأسر الفقيرة نتيجة قلة فرص العمل وتزايد الطلبات على المواد الغذائية الضرورية.. تجد بعض الأسر نفسها أمام واقع لا تستطيع أن تتحمله فتلجأ إلى التسول أو تدفع بأبنائها إلى هذه المهنة وهنا تحل الكارثة.
جهود مكافحة
على مدى السنوات الماضية ساهمت الجهات الحكومية والجمعيات والمنظمات الأهلية في مكافحة ظاهرة التسول من خلال تقديم الإعانات أو تأهيل المتسولين للعمل ومنع التسول في الشوارع لكن هذه الجهود ظلت محدودة للغاية في أن بعضها لم تصل إلى المتسولين واقتصرت على مواجهة ظاهرة الفقر. وعلى المستوى الرسمي بدأ الاهتمام الحكومي بظاهرة التسول منذ الثمانينات من خلال العديد من المشاريع التي استهدفت مواجهة الظاهرة سواء بما فيها تلك الموجهة لصالح رعاية وتأهيل المعاقين فكريا وجسديا باعتبارهم من الشرائح الأساسية للمتسولين.
ومن بين أبرز المشاريع التي تنفذها الحكومة اليوم لمكافحة الظاهرة" مشروع مكافحة التسول وإعادة التأهيل" الذي يستهدف الحد من ظاهرة التسول لدى الأطفال وتوفير الرعاية للمتسولين وإجراء الدراسات عليهم وتصنيفهم ومن ثم إعادة توزيعهم على المراكز ودور الرعاية الاجتماعية ووضع الحلول البديلة والمناسبة التي من شأنها مساعدتهم للإقلاع عن ممارسة التسول .
ويقول راشد عبدالله الأشول المدير التنفيذي لمشروع مكافحة التسول إن خطوات المشروع تنفذ من خلال جمع المتسولين ودراسة حالاتهم وأسباب ودوافع التسول .
ويؤكد أن الدراسات التي تجرى على المتسولين عبارة عن أبحاث اجتماعية ونفسية تهدف في المقام الأول إلى تعديل السلوك الشخصي للمتسول ومعرفة ظروفه الاجتماعية والاقتصادية والمشاكل التي يعاني منها وكذا معرفة الدوافع التي قادته إلى امتهان مهنة التسول.
ويقول إن أكثر الأشياء غرابة في موضوع احترف التسول هو نوعية الشخصيات التي يجري ضبطها يومياً والتي لا يصدق للوهلة الأولى أنهم يتسولون "نجدهم من أسر محترمة وليست في حاجة ولا تدري أسرهم أنهم يمارسون حرفة التسول إلا عندما يتم طلبهم من قبل العاملين في المشروع لاستلامهم وعمل تعهد بعدم قيامهم بمثل هذا السلوك مرة أخرى .