ترى الناقدة شمس المؤيد أنه لابد من وجود التجربة لدى الروائي المحلي.. فالتجربة الحياتية أو النفسية الخصبة هي التي تثري العمل الفني. وتعتبر المؤيد أن مقاربة المكان لابد أن تتم إبداعيا استنادا الى فهم لفلسفة المكان. وفي هذا الحوار لـ ليوم الثقافي تكشف لنا الناقدة شمس المؤيد الكثير من الرؤى تجاه المنجز الروائي المحلي:
**هل نستطيع القول إن هناك رواية محلية سوف تكتسب صفة الخلود..؟
- الرواية الخالدة هي تلك التي تجري فيها أحداث منبثقة من غمار الحياة متشابكة في بنى وتشابكات معقدة.. وفي منعطفاتها يتداخل خلقاً وتأثيراً شخوص لهم بصماتهم وآثارهم، سلوكهم وتصرفاتهم... شخوصٌ مثلنا يؤدون أفعالاً يغيرون بها المسار المألوف، ويهتكون أستار الجمود والرتابة.. فتنفتح في ذاكرتنا دروب جديدة وخارقة لا يمحوها الزمن ولاتعبث بها الأيام .
إن الرواية التي يكتب لها الوجود اللامتناهي هي تلك الرواية المسكونة بهاجس الإبداع القوي.. التي تغوي القارئ بالقراءة أكثر من مرة، وفي كل قراءة يجد فيها متعة ورغبة في الوصول إلى أعماق النصوص، ويزداد اقترابا منها، ويشعر أنه يزداد فهما لذاته وللعالم من حوله.
إنها ذلك النوع من الروايات التي تنحو إلى مايشبه تحرير الذات من مخاوفها ومعاناتها، والتي تعمل على تفجير الطاقة الشعرية الكامنة حتى في أكثر المشاهد تعاسة وبؤسا..
هي تلك التي تطرح قضايا جوهرية وهامة، وتعالج مشكلات إنسانية عامة، وتشرح وتفسِّر معاناة أبطال إشكاليين مهزومين في مجتمعات قاسية، مضطربة، موبوءة. وتحكي لنا عن أبطال مرهفي الحس منهمكين في بحث أعمى عن قيم نبيلة وأصيلة.
وأتمنى أن يأتي اليوم الذي نجد فيه ولو رواية محلية واحدة تحتل مكانها في عالم الخلود الأدبي .
**يبدو أن لك اهتماما بالمكان في الرواية.. كيف تجدين حضور هذا العنصر في الرواية المحلية.. ومن هو الروائي الذي استطاع توظيف هذا الجانب المهم في السرد؟
- إلغاء المكان أو تعتيمه أو ترميزه يخلخل البنية الروائية، ويلغي الرابط الأهم بين الشخصيات والأحداث. أذكر هنا قولا معروفا لجاستون باشلار في كتابه (جماليات المكان) وهو (إن ذاكرة المكان هي ذاكرة الإنسان)... إذن المكان في العمل الأدبي له أبعاده الجمالية والنفسية في بناء الرواية وتأصيل أحداثها... حيث المكان أحد عناصر ثلاثة رئيسة في تكوين النص الروائي.. هذه العناصر هي: الشخوص والزمان والمكان .
وباعتبار الرواية جنسٌ أدبيٌ مكانيٌ كما هو معروف؛ فإن المكان في الرواية يتخذ على حد تعبير ميشال بيتور (ما يشبه مخيلتنا).. وهو يأتي عبر جملة من المحاور تُلم بالفضاءات الذاتية والاجتماعية والروحية والتاريخية، وليس هو الهيكل الموضعي، أو الوصف الخارجي للمكان؛ فالمكان الموضعي ليست له أي قيمة في العمل الأدبي.
مقاربة المكان لابد أن تتم إبداعيا استنادا الى فهم لفلسفة المكان، بكل ما يشعه من معان واقعية وإيحائية ونفسية ورمزية، وإلا فإن المكان لن يكون سوى مجرد اسم يقصد منه الالتصاق بالواقعية ليس إلا.
من بين الروائيين المحليين الذي استطاعوا توظيف عنصر المكان أجد أن ليلى الجهني في روايتها (الفردوس اليباب) قد استطاعت إلى حد كبير إشعارنا بوجود المكان بدلالاته الموحية والمعبرة، أيضا محمد حسن علوان وفق إلى حد ما في تحديد مكان روايته (سقف الكفاية)... حيث استحضر الرياض بشوارعها وليلها وصخب شبابها وترقبهم وضجرهم ومغامراتهم الليلية... كذلك إبراهيم الخضير في روايته (عودة الأيام الأولى) عايشنا معه شيئا من توتر مدينة الرياض وأهلها أيام غزو الكويت ومابعدها ...
وهي أجمل رواية محلية بل خليجية كُتبت عن ظروف غزو الكويت وتأثيراتها على المنطقة برمتها في نظري .
هناك نورة الغامدي في روايتها (وجهة البوصلة) أجد أنها أجادت وصف الأماكن والقرى الجنوبية رغم أنها لم تسمِّها صراحة.. ولكننا شعرنا بها وارتحلنا مع شخوصها بين قراها الصغيرة ومزارعها وجبالها وبين مدينة (جدة ) و(مكة ).. وهذا جعلنا نلتصق ببيئة الجنوب كما هي بعاداتها وتناقضاتها وتشابك العلائق بين أهلها..
هذه الرواية بالمناسبة أجدها مميزة جدا ولو أنها لم تأخذ حظها من الاهتمام ومن قراءات النقاد واحتفاء القراء .
من بين الروائيين الذين اهتموا بتوثيق وتصوير المكان بحواريه وشوارعه الخلفية وأزقته الشعبية الروائي عبده خال خاصة في روايتيه (الطين) و (نباح).
وفي رأيي أن رجاء عالم هي أكثر من نجح في سكب نكهة المكان في رواياتها بطريقة أليفة وحميميَّة.. كما في روايتها (خاتم) حيث تتلألأ الأجواء التراثية المكيَّة القديمة التي تفيض بالروحانيات والأسرار والمعاني العميقة، وتتدفق بجمال خاص وخارق .
أحببتُ في كتابات رجاء تلك الفضاءات المكيَّة القديمة هذه بكل ماتستحضره من فولكلور محلي قديم يختلط بالمعتقدات الموروثة والأسرار والطلاسم .وأيضا لاننسى المرحوم عبد العزيز المشري الذي اعتنى بوصف البيئة المحلية في كل كتاباته تقريبا وتحديد المكان القروي ببساطته وسذاجة تعاملات أهله وطيبتهم .
**لديك رأي مفاده أن الروائي يجب ان يكون صاحب تجارب حياتية متراكمة.. حتى يستطيع كتابة الرواية.. ومع هذا نشهد هناك تجارب روائية في المشهد المحلي للكتاب من صغار السن هل هذا الشرط يخل بمنجزهم الروائي..؟
-لابد من وجود التجربة الحياتية لدى الروائي.. التجربة الحياتية أو النفسية الخصبة التي تثري العمل الفني .من المهم جدا أن تكون الرواية مستندة إلى تجربة حياتية مثرية، وإلى المعرفة الإنسانية الواسعة أو العريضة التي تعتمد على موقف فلسفيُّ واضح من الحياة. معظم الروائيين العالميين كانوا يمتحون من بئر تجاربهم الخاصة... هل كان هيمنجواي يستطيع أن يكتب رواياته العظيمة تلك عن الحرب لولا أنه كان يتحدث من تجربته الخاصة كمراسل حربي، وكذلك في روايته (الشيخ والبحر) كان يغترف من تجاربه وخبراته مع البحر خاصة بعد أن تقدم في السن وصار الصيد والبحر هما أكبر اهتماماته ؟ . ..الروائي الكولومبي ماركيز لو قرأت سيرته الذاتية (نعيشها لنرويها) ثم عدت إلى رواياته الشهيرة مثل (مائة عام من العزلة) و(الحب في زمن الكوليرا) لوجدت أنه يصف أحداثا عاشها أو عاش بعضها وسمع عن الآخر ممن عاشها قبله... وهكذا معظم من نقرأ لهم من عمالقة الرواية العالمية والعربية أيضا .
**وماذا عما يكتبه الروائيون والقاصون الشباب برغم نقص التجربة الحياتية؟
-هم يكتبون روايات جيدة وقصصا مميزة رغم قلة خبراتهم الحياتية.. فهؤلاء طبعا لابد أن نشيد بجهودهم الإبداعيـة.. ولكن رواياتهم وقصصهم تنقصها تلك النكهة التي تميز كتابات كتاب أكثر خبرة بالحياة منهم... قد تكون الرواية جميلة من ناحية اللغة المتدفقة، أو الأسلوب المتماسك، أو غنية بالشخصيات المثيرة للإهتمام، ولكنها تبقى سطحية وخالية من العمق الإنساني الذي تصنعه التجارب الحياتية... تلك التي تتحول في فكر الروائي إلى صياغة واقعية ملهمة ومثيرة للتأمل ودافعة للتفكير والإحساس بها من قبل المتلقي.
وفوق ذلك لابد من أن يكون للراوي رؤية فكرية عميقة وأن تكون لكتاباته دوافع أكبر من مجرد التسلية وترفيه القراء، وترصيع رفوف المكتبات باسمه . إن أهم مايميَّز الرواية عن أي جنس أدبي أنها ـ أي الروايةـ تقدم الأفكار في سياق إنساني وداخل إطار الأحداث والمواقف التي يواجهها الأبطال. والرواية الجيدة تجتذبنا إلى أعماق وعي الشخصيات التي قد نلتقي مثيلاتها في الحياة الواقعية فنعجز عن فهمها. ونحن نتوقع أن يمتلك الروائي مهارة الدخول إلى عمق الشخصية، وخاصة المعقدة منها والمركبة واقتناص المشاعر المختلفة التي تتصارع داخل الشخصية، وأن تكون لديه خبرة كاملة بالحياة التي يصورها، وقدرة على تجسيد مواقف الحياة المتناقضة أو المتشابكة وتصوير الحالات الشعورية المحيِّرة أو المربكة لدى شخصياته المتنوعة، ويمتلك كذلك شيئا من القدرة على التقاط ماينبعث من خلال المواقف المختلفة من أفكار حيَّة، ومن انفعالات محتملة، وصراعات واضطرابات. إن لم يملك الروائي هذه القدرات والخبرات فكيف يمكنه أن يكتب رواية ناجحة..؟
**رواية زينب حفني (لم أعد ابكي) لماذا تجدينها مجرد حدوتة... ملامحها مستوحاة من الحكايات المصرية؟
ـ بالنسبة لرواية زينب حفني الأخيرة (لم أعد ابكي) ربما ذكرت مرة أنها تشبه حدوتة مصرية لطيفة في صياغتها... دعنا نستعرض أي حدوتة مصرية أو غير مصرية فسنجد أنها تدور غالبا حول ست الحسن والجمال التي تعاني وتقاسي حتى يأتي من ينقذها من معاناتها في نهاية الحدوتة وذلك بأن يأتي البطل الذي هو إما (الشاطر حسن) أو غيره ليتزوجها فتتحول حياتها إلى أفراح ومسرات... ويعيشان في التبات والنبات ويخلفان الأولاد والبنات... وتوتة توتة خلصت الحدوتة .
رواية زينب حفني (لم أعد أبكي) تدور حول شيء كهذا وتنتهي بنفس طريقة (الحدوتة)... البطلة التي هي جميلة وطيبة وحنونة ومن أسرة ميسورة ولديها أحلامها وتطلعاتها ولكن الحياة تعاكسها وتسبب لها مضايقات، وفي النهاية تنتصر وتصبح فتاة قادرة على التغلب على كل الصعاب والمشاكل... طبعا نهاية رواية زينب لم تقل لنا صراحة كيف تخلصت البطلة من مآسيها ومشاكلها، ولكنها لوحت لنا بنهاية مفتوحة توحي بالحب والأمل وبفرح قادم.. مما يعني ضمنيا زغاريد الفرح ثمَّ التبات والنبات والأولاد والبنات ..
طبعا الحكاية كانت تحمل بعض البهارات و(التحبيشات) مثل التحدث عن قضية المرأة المظلومة في مجتمع قاس وغير عادل؛ هذا مع أن بطلتها التعيسة التي هي لفرط تعاستها تحتاج إلى توقيع والدها لتعمل بالصحافة، وصديقتها الأخرى الأكثر (تعاسة).. لأن أهلها القساة زوجوها لرجل غني جدا أكبر منها بغير إرادتها ـ فتحولت إلى امرأة فاسدة..! ـ ... هاتان البطلتان رغم أنهما مظلومتان وتعيستان لم تتركا شيئا لم تفعلاه في مجال اللهو والانطلاق وتكوين علاقات عاطفية وحميمية ..
هذا هو ما أساء لهذه الرواية بشكل خاص.. فالكاتبة لم تكن مقنعة أبدا فيماأرادت التعبير عنه أوتسليط الضوء عليه. لو أنها اختارت بطلة من غير بيئتها.. ممن يعانين فعلا من الظلم الاجتماعي ومن قسوة تعامل الرجال معهن حيث السجن في البيوت والحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية، والاستيلاء على الراتب، والضرب والعنف الجسدي والنفسي الذي تتعرض له بعض النساء التعيسات ـ فعلاـ في مجتمعنا، والحرمان من رعاية الأطفال لمن لاتتحمل قسوة الزوج فتفر منه وتطالب بالطلاق... وأمور أخرى كثيرة من هذه النوعية المؤلمة التي يضج بها مجتمعنا، لو أنها اختارت لروايتها بطلة من هذه الشريحة المظلومة لصدقناها وتعاطفنا معها... أما تلك التي تلقي بنفسها في أحضان الخطيئة ثم تتذمر من اضطهاد المجتمع لها وعدم تسامحهم مع زلاتها وأخطائها فلا أظن أن شكواها تقنع أحدا .كقارئة لم تقنعني الكاتبة أبدا لا بقضية بطلتها ولابمعاناتها المصطنعة.