"إن الله يرزق الطيور، ولكنه لا يلقيه في أعشاشها"- مثل صيني.
.. الساعة تقارب الحادية عشرة ظهرا، مؤشر الحرارة في سيارتي يعلن أن درجة الحرارة 43درجة مئوية، وشمس يونيو متربعة في رائعة السماء، وسياط الحرارة تضرب الطريق الإسفلتي وتشعل السراب في الأفق، وأنا واقف أمام إشارة الطريق النازل من الظهران إلى الدمام، وفجأة بزغ من بين السيارات شاب صغير يعتمر قبعة خضراء، ويحمل كومة من أعداد جريدة معروفة، ورحت أتأمل الشاب، وأجده أسمر، دقيق التصوير، وتلمع أسنان من بين شفتيه في صفاء العاج، وتنحفر غمازة في وجنتيه وهو يرسل الضحكة لأصحاب السيارات، وأنا أترقبه بحماسة أن يأتي إلي، متوجسا من انطلاق الإشارة الخضراء. وصلني حمد وأعطاني الجريدة، ومازحت معه بألا فكة لدي فقال: "فداك الجريدة"..
وأنا أتأمل حمد يغادرني مرحا، عرفت للتو أن الله أراد أن يعطيني درسا، وأن الله يريدني أن أوصل هذا للناس، بفضل إشراقة الشاب الذي يعمل تحت الشمس في عز الظهيرة في الشارع، ويخطر على الأرض مرحا وثقة وكرما، وابتسامته تضيء القلب المهموم. هذه روح شابة.. روح شابة من هذا التراب.
انطلقت بسيارتي المكيفة، وأعرف أن كثيرا منا أمام أو تحت المكيفات، وأعرف أن شبابا في عمر حمد إما نائمون في جو مكيف تحت رعاية حانية، أو أنهم يرتادون المقاهي المكيفة، أو يتداولون الشاشات، ويجرون وراء كل مكتب عقاري، يتلمسون الرزق بالبراد، أو يتذمرون من واقعهم.. إلا حمد وشباب جميلون مثله. هؤلاء أبطال، يزرعون الأمل بأن شجرة جديدة مثمرة وقوية وصلبة ستشق الأرض، بعد أن ملأت الأرضَ النباتاتُ الرخوة لزمن، ولم تعطِ الأرضَ بقدر ما نهلت منها!
لو سألت حمد، لما شكا لك، ولربما شكر أنه وجد هذه الفرصة، بالدريهمات القليلة، وببيع أعداد محدودة من الجريدة، وهذا هو كل سر روح العصاميين، بنائي المستقبل، الذين يصنعون مستقبلهم بالعرق والجهد وقبول ظروف الحياة، وهم كمتسلقي الموجات ليصلوا لقمة الموجة في يوم ما.. هذه القمة اسمها النجاح!
ولقد أفرزت الأوضاع المباغتة، شبابا لا يجدون الجامعات، ولا يجدون الوظائف، ونحن حيارى أمامهم، وأمام حقهم بالحياة، بعد أن عاش كثير منا -ومازالوا- يعيشون الحياة طولا وعرضا، حيارى لأننا لم نخرج حتى الآن بالآلية الصحيحة لحل أوضاعهم، فعندما نسد رتقا هنا، نجد أننا فتحنا رتقا أكبر.. وما زالت الأسئلة تدور، والحلول تخرج من المكاتب، ولكن لا شيء حتى الآن يقول لنا إن هناك استراتيجية ناجعة لجامعات أفضل، ومستشفيات أحسن، وفرصا للحياة أفضل، بل لا نملك حتى الآن أن نعد الصغارَ للحياة.. رغم تجارب كثيرة، ولكن ينقصها الجرأة والصراحة،والأهم الاعتراف بالواقع!
حمد لم يأبه لكل ذلك، حمد عصفور راح يلقط رزقه، لأنه يعرف أن الله وضع له رزقا أكيدا، وكل ما عليه أن يبحث عنه..
حمد أقدمك بطلا من أبطال الأمة.
أقلب الجريدة، فهي أحلى جريدة، ألم يقل لي حمد: " فدتك الجريدة"؟!