من مقاصد الخلق والوجود البشري التعارف بين الناس على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وأوطانهم، وربما تكون أمتنا الإسلامية الوحيدة بين الأمم التي تتعبد لربها بالتعارف مع بني البشر فقد ورد الأمر بهذا في كتابنا العزيز ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) 13 الحجرات، والتعارف وحب الاستطلاع من طبائع البشر، يوظفه كل إنسان حسب رغبته فالبعض يراه متعة في معرفة تفاصيل حياة الآخرين والتدخل في شؤونهم، والبعض يوجهه إلى العلوم والطبيعة، وهكذا...
وقد جاءت النصوص الشرعية لتجعل التعارف غاية من غايات الوجود وبدأتها بالأولى فالأولى، الأرحام ثم الجيران ثم الأبعد فالأبعد إلى الوصول للعالمين بالأمر المباشر بالحركة في الكون للتعارف ( قل سيروا في الأرض) 11 الأنعام، وغيرها من الآيات التي تحث على ذلك بكل الوسائل المتاحة للاتصال بالآخر وهي كثيرة في زماننا. إن وسائل التعارف من وجهة نظري تقوم على ثلاثة أبعاد ( احترام الخصوصية- السياحة الخارجية والداخلية- الثقافة) وقد جعل الله تعالى في كل مكان من المميزات ما يجعله متفرداً على غيره ليكون ذلك دافعاً للحركة منه وإليه. وتعد بلادنا ولله الحمد منذ الأزل مقصداً للقاصي والداني للعبادة والتشرف بزيارة الأماكن المقدسة، وهؤلاء أخوة لنا من حقهم أن نتعرف عليهم ( إنما المؤمنون أخوة) 10 الحجرات، أو من جاءوا للعمل والمساعدة في تنمية بلادنا، ولو أحصينا من جاءونا لهذه الأغراض في العشرين سنة الأخيرة لوجدنا عددهم يتجاوز مئات الملايين من كل فج عميق، ومع ذلك فلو سألنا أنفسنا كم من هؤلاء يمثلون أصواتاً دعائية أو قوة ضغط للتأثير على صانعي القرار في بلادهم لمساندة قضايانا حتى ولو في استضافة بطولة رياضية، فإن الإجابة في غير صالحنا، ولاشك أن من المعضلات الكبرى لأي مجتمع عدم وجود لوبي يدافع عنه في التجمعات الدولية الكبرى، ونحن نعاني من الحصار الذي يسببه اللوبي الصهيوني في أمريكا والغرب على قضايانا ودعايتهم المضادة لمصالحنا ولا نكاد نسمع من ينطق ببنت شفة بالدفاع عنا، ترى ما هي الأسباب؟ أعتقد جازمة أن هناك عوامل كثيرة من أهمها:
1ـ الأيدي العاملة، فالغالبية العظمى من الأيدي العاملة في السياحة الدينية من غير السعوديين والعرب بوجه عام، ولذا فإن اختلاط الزائرين يكون عادة بمن لا ينتمون لهذا البلد، ولا أرى سبباً مقنعاً لذلك في بلد بدأت البطالة تستشري بين شبابه بشكل مخيف.
2ـ افتقاد الحس السياحي، فتربية المواطنين على سلوكيات التعامل مع الزوار، وإعدادهم لغويا أو مهنياً يكاد يكون مفقوداً، والاعتماد فقط على الخبرة المكتسبة وليس أدل على ذلك من ندرة الموضوعات الدراسية عن السياحة وكذا المدارس والمعاهد والكليات السياحية بصفة عامة في المملكة وبصفة خاصة في منطقة الحجاز وهي منطقة ثروتها الحقيقية في السياحة الدينية التي لا تنقطع بدليل ما تبذله الحكومة مع حكومات الدول لتحديد أعداد الحجاج والمعتمرين لأن المناطق المقدسة تضيق بهم وليس هذا إلا في بلادنا.
3ـ الضبابية التي تغلف نظرتنا الاستثمارية للسياحة الدينية وقلة ما يوجه لهذا المجال من قبل رجال الأعمال في بلادنا، وبالطبع فإن الطفرة التي بدأت مع توسعة خادم الحرمين الشريفين للمدينتين المقدستين قد أدت لنتائج باهرة في هذا المجال ونؤمل المزيد.
وبالطبع لا أغفل عن مصادر السياحة الأخرى في مناطقنا الغنية بجمال الطبيعة والتي بمقدورنا أن نجعلها قبلة للسائحين والزوار أيضا ببرامج تعريف غير مكلفة كرحلات تنظم لهم من هيئات التنشيط السياحي في بلادنا ولتكن لنوعية مختارة بعناية من الزوار، أيضا قد يدفعهم هذا للاستثمار في بلادنا، ثم ألا يستحق التعارف أن نكون جماعات صداقة حقيقية مع من يزورون بلادنا للحج أو العمرة ونتواصل معهم عن طريق الشبكة العالمية للمعلومات على سبيل المثال بما يذكرهم ببلادنا في غير أوقات الصلاة عندما يوجهون للقبلة؟ نحن بحق بحاجة لكل هؤلاء.
الأمر الثاني الوافدون لبلادنا للعمل والذين يمثلون ما يقارب مع 20 بالمائة من عدد السكان الحالي، وهؤلاء طالما سعينا إليهم في بلادهم ليقدموا الينا خبراتهم، وتقوم على عمليات الاستقدام مكاتب تعد بالآلاف وابدأ هنا بالمعلمين الذين ندين لهم بالفضل والولاء فيما وصلنا إليه ومازال عطاؤهم يتنامى بيننا هل نتذكرهم في مناسبة كيوم المعلم ولو بكلمة أو رسالة شكر من طلابهم، وهل هناك علاقة بين نسياننا لهؤلاء وتجاهلنا لهم وسلوكيات أبنائنا مع معلميهم ومشاكلهم السلوكية التي لا حصر لها.؟ هل نحن بحق تعارفنا مع هؤلاء؟ إلا يوجد لأحدهم توقيع على ورقة في بيوتنا تذكرنا بهم وبالدعاء لهم بالخير والترحم على أمواتهم؟ فكروا كيف نتواصل مع هؤلاء العظام ثم العمالة الأخرى غير العربية والتي نأتمنها على أبنائنا وأعراضنا وبيوتنا هل نتعارف معهم؟ إن التعارف يقتضي في مقام السادة المطاعين، بل ويتعامل مع بعضهم على إنهم ملك يمين، أن صلتنا بهم تنقطع بمجرد أن ننهي علاقة العمل معهم ومنهم من ربى الأبناء وكان لهم بمثابة الأم الرؤوم، هل فكر أحدنا في الطريقة التي يمكن أن يعاملنا بها هؤلاء لو انقلب الحال في يوم من الأيام، نتعوذ بالله ولكن ماذا كنا قبل أن نكون، إنها سنة الله في الخلق التي يحييها التاريخ والتعارف ( وتلك الأيام نداولها بين الناس) فلو أصبحنا في أماكنهم كيف سيتعاملون معنا؟ إن السياج الواقي والآمن هو قوله تعالى "لتعارفوا" والتعارف رحمة وتعاطف معهم، ترى ما موقف إخواننا من رعايا الدول التي أضيرت بسبب ما يعرف بالتسونامي عندما يسمعون البعض يقولون إنه انتقام من الله لبلادهم ما موقفهم منا؟ ألا يستحقون من رجال الأعمال عندنا أن ينظموا زيارات جماعية لمواساتهم في بلادهم والتبرع بإنشاء بعض الخدمات التي هدمها الزلزال كالمساجد أو المدارس دون أن ننتظر أن تقوم حكوماتنا بذلك أليست هذه صدقة جارية؟ تعاطفوا تراحموا فإن الدهر قلب.
ولا يوقف الأمر على السياحة الداخلية بل يتعداها للسياحة الخارجية ونحن منذ زمن ليس بالقليل أصبحنا نمثل قوة تتهافت عليها الأسواق السياحية في العالم، ومن عجب أن معظم الأسباب لذلك ربما لا تكون في صالحنا، لكن هذا هو الواقع ومرة أخرى أكرر مع رواج هذا الأمر بين مواطنينا وكونه حديث الساعة الآن ونحن على أعتاب الإجازة الصيفية تخلو مناهجنا بما يعرف أبناءنا بالسياحة وأغراضها ومقاصدها مثل التعرف على الآخرين وطرائق تفكيرهم وتبادل الخبرات معهم ودعوتهم بسلوكياتنا التي تظهر محاسن ديننا والتعرف على سنن الله تعالى فيهم بل والتعرف على ما نعيبه عليهم عن قرب حتى لا نقع فيه وننقل محاسنهم لبلادنا، كل هذا مفتقد لذا نجد الأسر تتكلف الكثير من الوقت والجهد والمال فيما تسميه سياحة ولا تجني أي شيء من التعارف اللهم إلا النوم وزيارة أماكن قليلة بل عديمة الفائدة وبعض الهدايا التي قد لا تمثل قيمة تذكرنا بهذه البلاد وتاريخها، إننا نحتاج لتغيير في مفاهيمنا عن التعارف، ثم ألا نفكر في طرق مثلى للاستفادة من مواقع الشات والمنتديات على الإنترنت والتي أدمنها الكثير من شبابنا وفتياتنا في تعليمهم أساليب التعارف, وفق قيم ديننا حتى لا يضيعوا أوقاتهم في أمور غير صحيحة وليكونوا دعاة لثقافتنا وهم قادرون عل ذلك, ولاشك أننا بحاجة ماسة للتعارف مع الآخر والتعارف بين أبناء مجتمعنا أولى’, والبعد عن ثقافة السماع المغلوطة في معرفة فكر الآخر والجلوس والتحاور دون أن يكون الغرض أن يغير أحدنا فكره أو معتقده, إحدى أهم وسائل هذا التعارف, أن فلسفة التعارف الكبرى تقوم على التعاون فيما يتفق عليه البشر وليس أرقى من المشاعر الإنسانية كلغة توحد بينهم فالكل يفهم لغة الابتسامة على أنها مظهر بشر وترحيب, وتعبيرات الألم على الوجه على أنها مشاركة في المشاعر والآلام, وليعذر كل منا الآخر فيما يراه من خصوصياته.
لنتعرف أننا لم نتعرف مع أنفسنا أولا فعظم علينا التعارف مع الآخرين, لأن مناهجنا الدراسية لم تقدم لأبنائنا أسسا للتعارف مع الآخرين بحيث يستطيع من خلال تطبيقها أن يقدم نفسه للآخرين أو يساعد الآخرين في تقديم أنفسهم له, وحتى مناهج الجغرافيا لا تساعد لا في التعريف ببلادنا ولا حتى بالتعريف بطبيعتها الجغرافية بشكل وظيفي ومناهج التاريخ لا تعرفنا بتاريخنا الحقيقي وعبره وعظاته بل هو تاريخ جمل بعض أحداثه المؤرخون, لقد استوقفني كثيرا الثورة التظاهرية التي يقوم بها الصينيون الآن ضد اليابان لمجرد أن اليابان قررت تدريس كتاب في التاريخ يبرر ما قامت به من جرائم في حروبها ضد الصين, ولا شك أن الصينيين شعب يعرف تاريخه ويعتز به ويتابع كل ما يمكن أن يحيط به من تطورات خارجية إنها أمم صنعها التاريخ فعرفت قيمته.
ثمة أمر آخر هو الاطلاع على ثقافة الشعوب ومن أهم مظاهر الثقافة اللغة او اللهجة المحلية وكذا تراثهم الحضاري ممثلا في آثارهم وكلنا يعرف مدى حرص القرآن على توجيه النظر الى ما تركه الآخرون من أثار لكونها تساعد في فاعلية التعرف عليهم, ولا يخفى اثر وسائل الإعلام الآن والتي تبث بلهجات ولغات العالم بأسره والتعرف على مفردات هذه اللهجات يساعد على تجنب السائحين للكثير من المضايقات, ولا شك أننا نتأثر كثيرا بالأعمال الدرامية التي نستمع إليها وتنقل صورة عن حياة هذه الشعوب ويترتب عليها ذلك أن انتقال بعض المفردات للثروة اللغوية للإنسان لا يجب أن يؤخذ على انه ضياع للهوية أو ذوبان للشخصية أو خضوع لتأثير ما بل هو ظاهرة طبيعية للانتقال والتداول الثقافي بين الشعوب وهو نوع مميز من أنواع التعارف لكونه يدل على شدة التأثير والتأثر, واللغات إنتاج إلهي ليس حكرا على أحد من البشر إنه دليل الحياة والتفاعل مع أنماطها.
اننا لم نستطع للآن أن نجذب رؤوس الأموال العربية أو الإسلامية لتستثمر في بلادنا, ونجح الغرب في ربطنا بأرضه وترابه ووضع أموالنا وثرواتنا في مشروعات تدر علينا بضع دولارات وتبنى له الأمجاد وتؤمن مستقبل أبنائه, هل نجحوا في التعارف معنا كما يجب أن يكون التعارف؟ نعم نجحوا فلندرس ذلك بجدية وبعيدا عن التشنج, والعصبية ليس كله شرا والشرق ليس كله خيرا, والتعارف بين البشر ثروة ساقها الله إلينا فلا يجب أن نهدرها فهي نعمة اشكروها لتزيد وتعاطفوا تراحموا تعارفوا فان الدهر قلب.