DAMMAM
الخميس
34°C
weather-icon
الجمعة
icon-weather
34°C
السبت
icon-weather
37°C
الأحد
icon-weather
33°C
الاثنين
icon-weather
34°C
الثلاثاء
icon-weather
36°C

صورة ضوئية لغلاف القارورة

المكون الميتاقصي في رواية يوسف المحيميد "القارورة" 2/3

صورة ضوئية لغلاف القارورة
صورة ضوئية لغلاف القارورة
أخبار متعلقة
 
الرواية مثل الفيلم أو العكس، كل منهما يهب أوقاتا للهروب نحو أحلام تستعار لفترة القراءة أو المشاهدة وخوض بطولات وهمية بالإنابة (vicariously). في الفقرة السابقة عن عشق منيرة للروايات لما تزخر به من عوالم مثيرة تلبي إيهاميا حاجاتها النفسية والعاطفية ، يرفع العنكبوت الميتاقصي رأسه ليفرز في الخطاب السردي خيطا رفيعا من التعليق على قدرة الرواية على الإغواء بتقديمها عوالم تنافس العالم الامبيريقي(هتشيون ، 77). إلى مثل هذه العوالم المنافسة تهرب منيرة ،وربما يهرب إليها كثيرون من قراء الرواية. تلعب هذا الفقرة دور المرآة التي ينصبها العنكبوت الميتاقصي أمام الرواية (القارورة) لتتأمل صورتها باعتبارها مصدرا محتملا للإغواء، ويضعها (المرآة) أيضا أمام القارئ لتفضح صورة نفسه أمام نفسه وهو يقرأ هذه الفقرة بالذات، فمن المحتمل أن يلحظ أنه هارب مثل منيرة ، أو أنه يرى صورته في منيرة، وقد يكون ادراك هذا باعثا للتماهي معها. وقد يكون الاثنان أيضا ، منيرة المرأة من كلمات والقارئ كتلة اللحم والدم، مثل أولئك الناس المنعزلين ، غالبا وسط جماعات من الغرباء، يجلسون بإذعان ، صامتين ، منحنين كالأجنة تقريبا فوق حزمة صغيرة من الورق، في الواقع صغيرة إلى حد السخف (لينارد ديفيس , Resisting Novels,2). وربما يكون قارئ (القارورة) مثل ديفيس نفسه ، عاشق الرواية بامتياز، الذي تولد إحساسه بذاته من صفحات الروايات التي قرأها بنفس درجة تولده من عيشه في شقة من شقق الطبقة العاملة في البرونكس حيث تشكل وعيه(ديفيس ، 2). إن وضع خطة لكتاب يعني تخطيط هروب للقارئ (هتشيون، 53)، والروائيون مخططون بارعون لفرص هروب بمستوى عال من القدرة على الإغراء. يقول ذلك العنكبوت الميتاقصي في (القارورة) عبر منيرة عن الروايات التي تقرأها، ويقول ذلك أيضا بطريقته الملتوية عن (القارورة)،وأضيف ، عن أية رواية. تعود (القارورة) إلى حكاية غزوى وتخفي عودتها ، أو كما ذكرت آنفا ، تستحوذ على الحكاية وتعيد كتابتها. عودة "القارورة" إيماءة اعتراف بواحد من أسلافها، ودعوة غير مباشرة ، من منظور ميتاقصي، إلى الالتفات إلى ذلك السلف لتوافره على مضامين ومحمولات ترميزية وثيماتية يمكن استثمارها في كتابة اعمال سردية تعالج هموم وقضايا معاصرة مثل قضايا القمع والاستبداد الذكوري الذي يطال المرأة. لكن العنكبوت الميتاقصي يحيك تهكما ونقدا مستبطنين للحكاية الشعبية ،كاشفا محدودية إمكاناتها للتعبير عن كل قضايا المرأة المعاصرة الأكثر عددا وتعقيدا من قضايا المرأة في زمن كانت الحكاية الشعبية فيه وسيلة تعبير وتعليم وتسلية ، وأحد أوعية حفظ الذاكرة الثقافية. رجوع (القارورة) إلى الحكاية يشابه الى حد ما رجوع الفيلم الكوميدي الرومانسي (Pretty Woman,1990) إلى حكاية سندريللا ليقلبها رأسا على عقب ، فسندريللا القرن العشرين ليست الفتاة اليتمية التي تعاني الاستغلال والظلم من زوجة الأب ، انما هى فيفيان وورد (جوليا روبرتس) التي تتسكع في هوليوود بوليفار ، والأمير هو رجل الأعمال ادوارد لويس(ريتشارد غير). على النقيض من (القارورة) التي لا تفشي علاقتها بالحكاية الأصل ، يشير الفيلم إلى سندريللا بإحالة تهكمية خلال واحد من حوارات فيفيان مع زميلتها في المهنة كت دي لوكا (لورا سان جياكومو)، حيث يرد اسم سندريللا محرفا ، اكتبه بطريقة الترجمة العربية للأفلام الأجنبية-(سندر/تبا/يللا(. بالإضافة إلى خلوها حتى مما يدنو من التلميح الى غزوى بصفتها النموذج الأولي لشخصية منيرة كما يفعل الفيلم ولو بتحريف اسم سندريللا، لاتتضمن (القارورة) نقدا صريحا للحكاية يرد على لسان الروائي العليم، بل هذا ما يستنتجه القارئ بمقابلة ومقارنة الحكايات الشعبية الثلاث بالحكاية التي تغزلها العنكبوت منيرة الساهي من تفاصيل وخيوط فضيحة زواجها الزائف ، ومن قصص فتيات و نساء أخريات يتعرضن للاستغلال والعنف المذكر: صديقتها نبيلة التي يتحرش بها زوج أمها، الفتاة التي يقتلها أبوها غسلا للعار، فاطمة الحساوية التي يعدها معيض بالزواج ثم يتركها بعد أن تحمل منه سفاحا، حسناء مدمنة المخدرات، ميثاء قاتلة زوجها العجوز الذي تتزوجه قسرا. حتى المرأة ممثلة في العاملات بـ(دار الفتيات) تظهر في حكاية منيرة متورطة في إلحاق الأذى بالمرأة وإذلالها ، هذا ما يستشف من تحول جلد السجينات(فطور الكلاوي) الى فرجة ومصدر للمتعة للعاملات في الدار. هذه الصور السردية لمعاناة المرأة هي الحكايات (الخبيئة) المكبوتة التي تراها منيرة الساهي وهي تتخيل نفسها محلقة في الهواء أثناء حضورها في المحكمة، "لا أعرف كيف رأيت أنني أرتفع بالعباءة المنفوخة بالهواء وكأنها منطاد. أرتفع قليلا قليلا...ثم أعلو قليلا فأرى...سطوح المنازل..تمور بحكايات خبيئة. أعلو أكثر فأكثر ، فأرى أختي منى وزميلتي نبيلة، أرى فاطمة الحساوية ميثاء البدوية..." (199). انفتاح حكاية منيرة على قصص هؤلاء النساء هو واحدة من الاستراتيجيات السردية التي يوظفها المؤلف الضمني لتعميق البعد البارودي الميتاقصي بكشف الكيفية التي تلتقي بها (القارورة) مع وتفارق الحكاية الشعبية، التي تومئ الى ثلاثة مصادر للخطر المحتمل على المرأة: الجن/الجني الذكر، العجوز المحتالة ، زوجة الأب الإمعة. لكن منيرة الساهي تسرد حكاية يتجلى الخطر فيها أكثر تنوعا في مصادره على نحو لا يبدو أن الحكواتي القديم كان قادرا على تخيله وبالتالي التهيئة والإعداد له ، على أساس أن من وظائف الحكاية الوعظ والتهيئة لغير المتوقع. وغير المتوقع، الذي لم يتوقعه المؤلف القديم لحكاية الجني العاشق بشكل خاص ، هو أن يأتي الخطر للفتاة والمرأة ، ليس من جني قادر على التحول الى حصان أو حيوان آخر، بل من إنسان يملك القدرة على التحول مجازيا إلى عنكبوت يغزل من الكلمات مصيدة ينصبها أمام فريسته المستهدفة. هذا ما يفعله حسن العاصي حين يعصي أمر رئيسه الرائد صالح الساهي و يتحول من عاص إلى دحال ، والدحال لغة المخادع و الصياد بالدواحيل ، والدواحيل المصائد التي ينصبها لاصطياد الظباء ، والظبية منيرة الساهي تسقط في الدحل الذي ينصبه الرجل العنكبوت وصياد النساء الغزاليات حسن العاصي، في غياب (سهو) أخيها صالح الساهي في لندن ، وغياب (سهو) أهلها لوجودهم خارج البيت. شبكة العنكبوت حسن العاصي لفظية، قصة ملفقة ، دحل مصنوع من كلمات تروي حكاية إعجابه بكتابات(كلمات) الفريسة الظبية منيرة الساهي ، وتحوله من عاص إلى دحال هو تحول لغوي أولا ، يعاضد تحوله مجازيا إلى عنكبوت ويعزز صفتي المكر و الخبث فيه. هذا التحول في الأصل تدبير المؤلف الضمني الذي يلعب هنا لعبة ميتاقصية أخرى ليضفر خيطا ميتاقصيا آخر في نسيج الخطاب السردي في روايته، بطريقة تستدعي للذاكرة بعض الروائيين الميتاقصيين في تسميتهم الشخصيات في رواياتهم بأسماء تصفها كما تسميها ، محاكاة لروائيي القرن الثامن عشر (باتريشيا وو ، 94Metafiction ). ولعل أقرب الأمثلة ما يفعله الروائي الجنوب افريقي جي. أم. كوتسي في روايته (Foe) المحاكاة البارودية لرواية (روبنسون كروزو) للروائي الانجليزي دانيل ديفو. لم يفطن محبرو المراجعات الصحفية العربية لهذه الرواية ،بعد فوز كوتسي بجائزة نوبل ، إلى أنه يلعب لعبة ميتاقصية على الكلمة فترجموا عنوان الرواية إلى (خصم ، عدو ) ، رغم أن (Foe) اسم شخصية في الرواية ، ما يعني بالتالي اشكالية ترجمتها ، وملاءمة كتابتها كما تنطق (فو) ، إضافة إلى عدم انتباههم إلى أن هنالك لعبة تجري على مستوى آخر ميتاقصي ، وأن كوتسي باستخدام هذه الكلمة يلغي المضاف إلى اسم دانيل ديفو ، أي يعيد الاسم الأخير للروائي ا(Defoe ) إلى أصله (Foe) بمحو الحرفين ((de، وكان دانيل قد حذفهما عندما أصبح كاتبا عام( 1695) تقريبا ليعلن انتسابه رمزيا ولغويا إلى طبقة النبلاء، فيما يبدو تبرؤا من أبيه الجزار ومن انتمائه الطبقي. شطب المضاف من اسم مؤلف (روبنسون كروزو) جزء من اللعبة البارودية النقدتناصية في رواية كوتسي. لا تكتفي(القارورة) بالتهكم تلميحا إلى عجز الحكاية عن تهيئة منيرة لغير المتوقع، بل تتعدى ذلك إلى فضح إسهامها، على لسان منيرة نفسها، في وقوع الفضيحة التي تتورط فيها، فحكاية سليمان بن عافية ، بشكل خاص ، احد الأسباب التي تحول دون اكتشاف منيرة حسن العاصي على حقيقته. يرى القارئ منيرة وهي تفكر ثم تتوقف عن التفكير في فتح الحقيبة المملوءة بالحجارة التي يودعها لديها حسن العاصي أمانة إلى حين عودته مما يدعي أنها مهمة "لتخليص شخصية مهمة مفقودة في الكويت" (101). لو فتحت منيرة الحقيبة لاكتشفت زيف العاصي الجندي المتنكر في ثياب رائد. لكنها لم تفعل لأنها تقمع فضولها لمعرفة محتويات الحقيبة خشية أن تلاقي مصيرا مشابها لمصير "أخت التاجر الجوال ، التي تزوجت من الجني سليمان بن عافية" (102) وقتلها بعد أن تجرأت على فتح الغرفة رقم (40) ورأت جثث قتلى الجنى المعلقة. الحكاية إحدى وسائل المجتمعات القديمة للمحافظة على ثقافتها وتوريثها من جيل لجيل ، ومن آليات الحفاظ على الوضع القائم بهيكليته وتراتبيته الطبقية وعلاقات القوة وتوزيع الأدوار بين الجنسين.